في مسألة التثاقف الحواري

من غير المعقول أن يتفق الناس جميعاً في أفكارهم ورؤاهم، إذ هو من الأمور المستحيلة التحقق. وإذا كان من الطبيعي أن يدعو كل طرف الآخرين إلى تبني أفكاره وما يعتقد به من رؤى، إلا أنه من غير الطبيعي وغير السوي فرض هذه الأفكار بالقوة على الآخرين، وإرغامهم على تبنيها قسراً.

ويتجلى هذا الأمر من خلال لغة التعالي والتكبر أثناء الحوار حين يعتقد البعض بأن رأيه هو الصواب والحقيقة المطلقة التي لا تحتمل الخطأ، وكل رأي آخر خطأ لا يحتمل إلا الخطأ، حيث يستخدم هؤلاء مع مخالفيهم لغة جارحة متشنجة، أو يطلقون عليهم أقذع الصفات، أو يوصمونهم بتهم معلبة جاهزة بقصد التشويه. وكل ذلك على حساب الموضوعية، والمصداقية، والمعايير الأخلاقية.

فالاختلاف في الرأي لا يعني الحق في إهانة الآخر والسخرية منهم، والاستهزاء به، وشتمه، والدعاء عليه. ففي النقاش غير الموضوعي يتم إصدار أحكام مسبقة على صاحب الرأي الآخر، كونه مصنف فكرياً ضمن فئة مخالفه أو منافسة. لذلك فإن البعض ممن ليس لديه القدرة على النقاش الموضوعي يتهرب من الموضوع إلى صاحب الموضوع، وشخصنة النقاش، من دون الاستماع إلى ما يقوله الآخر من حجج وبراهين.

ولئن كان من حق كل أحد الدفاع عن أفكاره، كما الدعوة إلى أفكاره، إلا أنه من الضرورة بمكان أن يتم ذلك بالطرق الحوارية السَليمة والسِلميّة، فإن اقتنع بها الآخرون كان بها، وإلا فكلٌ له رأيه وخياره الذي ارتآه لنفسه، أما فرضها على الآخرين كمسلمات غير قابلة للنقد والمراجعة فهو أمر لا يستقيم مع الطبيعة البشرية والسنن الكونية.

من الضروري في أي الحوار أن يكون هناك احترام متبادل بين المتحاورين، أي احترام بعضهم لبعض كشخوص، وكأشخاص لهم آرائهم وأفكارهم. إلا أن السعي إلى تغيير هذه الأفكار لا يتم بغير لغة الحوار والإقناع، من دون فرضها على الآخرين. فالوصاية على العقول وإرغامها على تبني ما لا قناعة لها به يستحيل تحققه، وهو بعيد كل البعد عن مسألة حرية الفكر والاعتقاد التي تدعو إليها القيم الدينية، والإنسانية، والحقوقية.

لذلك من المهم أن تنفتح العقول على بعضها البعض كي تتخاطب وتتثاقف، وأن تترك الأفكار تتحاور، أو تتصارع، أو تتدافع، أياً كانت التسمية، لأن ذلك هو السبيل إلى تنمية الأفكار وتطورها، وبالتالي تطور المجتمعات. فتطور وتقدم المعارف لن يتحقق من خلال المظاهر الخارجية، والتحديث الخارجي، أو البنية الفوقية، من دون العمل على تطوير البنية التحتية، أي العمل على تطوير عقلية الإنسان وثقافته، من خلال رفده وتزويده بالعلوم العقلية والمعرفية.

إن الناظر إلى بعض شعوب هذا العالم يرى كيف تمكنت من التقدم والتطور بعد أن أعطت للعقل حريته، وأطلقته من عقاله، مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية الالتزام بالقيم المعنوية والروحية والدينية والإنسانية التي تحفظ للإنسان كرامته، لكيلا يكون مجرد حالة استهلاكية تُستلب منه قيمته الإنسانية، خصوصاً في زمن العولمة والاقتصاد المتوحش.

إن لغة الحوار الهابطة، حيث اللغة الجارحة والنابية والمتشنجة، ليست ما ينبغي أن تكون عليه مجتمعاتنا، سواء كان ذلك في البيت، أو المدرسة، أو الشارع، أو العمل، أو في أي تجمع إنساني، فضلاً عن الحوارات التي تتم بين من يسمونهم بالنخبة، وهو الأمر الذي يستدعي التوقف عنده والتأمل فيه من أجل تحليل المشهد وتقييمه، والتفتيش عن السبب الذي أوصلنا إلى هذا المستوى المتدني في إدارة حواراتنا واختلافاتنا، ومن ثم البحث عن جذور الخلل والعلل في منظومتنا الفكرية والثقافية، والعمل على نقدها وإصلاحها، من أجل تمهيد الطريق نحو تطوير المعارف والعلوم العقلية في مجتمعاتنا.

لمتابعة آخر أخبار أم الحمام أولاً بأول على جوالك أرسل «اسمك الثنائي» على 0545334968 «مجاناً»