حوارات تحت تأثير مشاعر الغضب

كتبت في مقالة سابقة بعنوان «الغضب وعواقبه»، عن الغضب المذموم، والذي هو من السلوكيات السلبية الشائعة في مجتمعاتنا، إذ يمكن لأشياء بسيطة أن تستفزنا، وتُثير مشاعر الغضب في نفوسنا. فالتحمل وضبط النفس أصبحت من السمات النادرة هذه الأيام، المليئة بالضغوطات والمنغصات ومصادر التوتر اليومية، وهو الأمر الذي يمكن توقع أن ينعكس في السلوكيات والأفكار والتعابير، حيث تقودنا مشاعر الغضب إلى فعل أشياء غير معقولة، والإقدام على تصرفات وسلوكيات بلهاء طائشة متهورة نندم على فعلها، ولا يكون بالإمكان بعدها تدارك نتائجها وتداعياتها.

غير أن هذه المقاربة تتحدث عن مشاعر الغضب والانفعال والتشنج التي تحدث أثناء الحوار. فالعنف اللغوي الذي نشاهده في بعض برامج الحوارات التلفزيونية، أو على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، يتكرر مثيله أحياناً في المجالس والديوانيات، خصوصاً إذا ما التقى الخصوم والأضداد والمختلفين، فما أن يثار موضوع مختلف فيه حتى تتوتر الأعصاب، وتفلت الأمور عن سياقها، ويبدأ المتحاورون تحت تأثير حالة التشنج ومشاعر الغضب العارمة في تقاذف الكلمات الحادة التي تجرح الأحاسيس والمشاعر.

والصراحة تقتضي الاعتراف بأن ضبط النفس والتروي أثناء أي حوار، أو الانفعال والتشنج والصدام فيه، يعتمد على طبيعة المتحاورين، وتكوينهم النفسي، وتركيبة كل منهم الشخصية. فحين تكون سمة المتحاورين الأساسية التروي والأناة وسعة الصدر، والقدرة على التحكم فيما يعتمل داخل نفوسهم من مشاعر، فإن احتمال نجاح العملية الحوارية سيكون هو الأقرب. أما في حال كانت التكوينات النفسية للمتحاورين تتسم بالعصبية والانفعال والتشنج وسرعة الغضب، فإنّ احتمالات الفشل ستكون هي الأقرب بطبيعة الحال.

فالبعض لا يشارك في أي حوار إلا وهو متحفز للقتال والهجوم، وكأنه يدخل معركة لابد أن ينتصر فيها، فتراه متوتر الأعصاب، سريع الغضب، يفتقد الهدوء، ولا ينصت لسماع الرأي الآخر، بل يقاطعه من دون تروي. مما يتسبب في توتير الأجواء، وإثارة الأعصاب، يتحول معها النقاش إلى حوار طرشان، حيث لا يكاد أحد يسمع صوت الآخر، وما يقوله من كلام، فضلاً عن التمعن فيه والتأمل في معانيه. فكلٌ لا يصغي لما يقوله محاوره، بل تراه يخطئه من دون الإصغاء إليه، والاستماع إلى حججه، وكأن الجميع يأتي إلى الحوار وهو محمل بآرائه المسبقة التي لا يحيد عنها قيد أنملة، ولديه تصوراته الغير قابلة للنقاش، فضلاً عن أنهم يأتون للحوار لتفريغ ما يحملونه في دواخلهم من مشاعر سلبية تجاه الخصوم.

ومن الجلي التذكير بأن هناك من لا يملك القدرة على التحكم بانفعالاته وغضبه حين النقاش والحوار، حيث تتهيج أعصابه، وتثور نفسه، وقد تصدر منه تصرفات نزقة تحت تأثير مشاعر الغضب، فيرفع صوته لأتفه الأسباب، وينفلت منه لسانه بالكلام الجارح والبذيء، وربما تصل به الأمور في بعض الأحيان إلى حد الشجار والضرب والعراك مع من يتحاور، بعيداً عن الحكمة والتأني والتروي وسعة الصدر، وهو الأمر الذي دائماً ما يتسبب في خلق جروحاً غائرة في النفوس يصعب اندمالها، وتظل مفتوحة مع مرور الزمن.

غير أن هناك آخرون على العكس تماماً يمتلكون القدرة على ضبط أعصابهم عند الغضب، ويتعاملون مع المواقف الاستفزازية ببرودة الأعصاب ومن دون انفعال، ويتصفون بهدوء الأعصاب والحكمة والتروي مهما تم استفزازهم، أو تم قدفهم بالكلمات السيئة والجارحة. فإذا كان هناك ممن لا يحسن ضبط نفسه أمام صغائر الأمور وتوافهها فيسرع إليه الغضب والانفعال والتوتر، إلا أن هؤلاء لديهم القدرة على التحمل وضبط النفس، والتحكم في ذواتهم مهما استفزتهم عظائم الأمور وشدائدها، فهم يتحلون بالعقلانية والحكمة والتروي في إدارة الحوارات، فهم إلى جانب امتلاكهم فن إدارة الذات والتحكم في الانفعالات والغضب، هم أيضاً يمتلكون فن خوض الحوارات وإدارتها.

فهؤلاء لا يشعرون بالضير من اختلاف الآخرين معهم ومع آرائهم، ولا تستفزهم الآراء الشاذة والمغايرة، ولا تسيطر عليهم مشاعر الغضب عند احتداد النقاش، إذ هم يشاركون فيها بعقل منفتح وقلب مفتوح، حيث تتسم نقاشاتهم بالمنطقية والعقلانية، كونها تعتمد على لغة العقل والعلم، ولغة الحقائق والأرقام، مع الانصات للرأي الآخر واحترامه، وهو الأمر الذي يسهم في تهدئة أجواء الحوار، وإبعاده عن حالة التوتر والتشنج والهيجان.

علاوة على ذلك فإن المهم بالنسبة لهؤلاء هو إثراء الفكر، وتقديم الحلول، والبحث عن المصلحة العامة، بعيداً عن مشاعر الغضب العارمة، ولغة التعصب والعصبية، وتهيج الأعصاب، وإثارة النفوس، حيث يحترم كل مشارك في الحوار محاوره الآخر ورأيه، ولديه الاستعداد لتقبل الرأي الآخر، والاقتناع به، إذا اقتنع بالدليل والحجة والبراهين بصوابه، ولا ضير لديه في الاعتراف بخطأ رأيه والانحياز للحقيقة، حتى وإن كانت صادرة من محاوره، فهو ينحاز للحقيقة مهما كان قائلها.