الإنسان بين لم ولم

رسالتان قصيرتان جدا كلاهما غاية في بلاغة الإيجاز كتبهما الإمام الحسين عليه السلام في ظرف استثنائي جدا وهو راكب براق الاستشهاد عارجا نحو الأفق الأعلى، حيث يقترب موعد لقاء أسلافه الذين أخذ به الوله إليهم أي مأخذ. (وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه).

الرسالتان أو الكتابان مرويان في كتاب معتبر، هو كامل الزيارات لابن قولويه رحمه الله، وكلا الكتابين مرويان عن الإمام الباقر عليه السلام، وهذا يدل على اهتمام الإمام بهذين الكتابين، وحرصه على إيصال مضمونهما لشيعته رغم أنهما رسالتان خاصتان بحسب الظاهر.

الرسالة الأولى ولن أتوقف عندها: عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "كتب الحسين بن علي من مكة إلى محمد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد فان من لحق بي استشهد ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام".

الرسالة الثانية: عن ميسر بن عبد العزيز، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: "كتب الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى محمد بن علي (عليه السلام) من كربلاء: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي (عليهما السلام ) إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل، والسلام".

فماذا في هذه الرسالة من بلاغة؟ وما هي رسالة الرسالة؟

الرسالة تكتظ ببلاغة الحذف التي هي من بلاغة الإيجاز. قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز عن الحذف وبلاغته: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن".

الحذف قد يكون لكلمة أو جملة أو عدة جمل، والأمثلة على ذلك خصوصا في كتاب الله العزيز، ففي قوله تعالى (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء)، حُذِفت جُمَلٌ برُمَّتها، وتقدير الكلام: فذهَبَتا إلى أبيهما، وقصَّتا عليه ما كان من أمر موسى، فأرسل إحداهما، (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ).

حين يريد خطيب من الخطباء الحسينيين إنهاء مجلسه يتلو شيئا من بيت شعري ثم يسكت، فما الذي يحدث؟

حين يقول الخطيب: وأعظم ما يشجي الغيور ... ويسكت، فما الذي فعله الخطيب؟

ما فعله الخطيب هنا أنه استثار ذاكرة المتلقي وجعله مشاركا في استمطار العبرات واستنبات الآهات.

أعود لرسالة الإمام الحسين الثانية: أما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل، والسلام.

إذا تأملنا هذه الرسالة نجد أن فيها أكثر من محذوف: هناك كلام محذوف بعد "أما بعد" التي تستخدم للاقتضاب والتلخيص والانتقال من المفتتح إلى المقصود. أما ما هو المحذوف فعلى متلقي الرسالة تقدير المحذوف الذي قد يكون:

  1. أما بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله المصطفى وعترته الطاهرة، أو
  2. أما بعد الذي جرى من أحداث ووقائع، أو
  3. أما بعد إقامتي الحجة عليكم، أو
  4. أما بعد أن اختار كل طريقه، أو
  5. هذه كلها

وهناك حذف آخر جرى في قوله: فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل. فما هو المحذوف؟

البعض قد لا يلتفت لوجود محذوف هنا، ويظن أن العبارة لا تحتاج لتقدير محذوف. ولكن الأمر ليس كذلك.

كلام أهل البيت يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا، والإمام عليه السلام اعتمد في الحذف هنا كما هو ظاهر على ما هو حاضر في ذهن المتلقي، ونعني به: أخاه محمد بن الحنفية ومن قبله من بني هاشم. المتلقون كانوا على علم بكلمات أمير المؤمنين عليه السلام التي يقول فيها:

فكفى واعظا بموتى عاينتموهم. حملوا إلى قبورهم غير راكبين، وأنزلوا فيها غير نازلين. فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا، وكأن الآخرة لم تزل لهم دارا.

الحسين عليه السلام في كلمته هذه يؤكد على ذات المعنى مبتدئا (أما) التي هي أداة شرط وتوكيد وتفصيل. يقول الزمخشري صاحب تفسير الكشاف: "فائدة أما في الكلام أن تعطيه فضل توكيد، تقول: زيد ذاهب. فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب، وأنّه بصدد الذهاب، وأنه منه على عزيمة، تقول: أما زيد فذاهب؛ ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب".

إذن تكون العبارة هكذا: مهما يكن من شيء فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل.

هذا على مستوى بلاغة الرسالة في عجالة.

أما عن رسالة الرسالة، فهي تلخص وتؤكد ما أشار إليه القرآن في أكثر من موضع، كقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها). وقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ).

هذا في جانب الدنيا. أما جانب الآخرة، فقد قال: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

رسالة الرسالة تقول: كونوا في الآخرة دائما لتكون حياتكم أفضل ومعادكم أفضل، وحتى لا تكون مشمولا بقوله: (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). تلك هي معادلة الإنسان بين لم ولم.

كيف ستكون حياة الإنسان في معادلة لم ولم:

  1. من يعش هذه المعادلة سيكون حاله مع الله مختلفا. سيكون واحدا من أولئك الذين وصف حالهم الإمام علي بقوله: "ولَوْ لَا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه عَلَيْهِمْ - لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ - شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ - عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَه فِي أَعْيُنِهِمْ - فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ - وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ –".
  2. من يعش هذه المعادلة سيكون حاله مع نفسه مختلفا، لأنه سيكون أقدر على تحديد أولوياته واستثمار قدراته واتخاذ القرارات الصائبة والمواقف السليمة. وسيكون مستثمرا ناجحا لكل لحظة من لحظات حياته. "واكفنا طول الأمل، وقصره عنا بصدق العمل، حتى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة، ولا استيفاء يوم بعد يوم، ولا اتصال نفس بنفس، ولا لحوق قدم بقدم". وسيعتبر الدنيا مضمارا للسباق نحو المعالي (سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم).
  3. من يعش هذه المعادلة ستهون عليه الدنيا وما فيها من مصاعب ومصائب وابتلاءات، وسيعيش الزهد حق الزهد، الزهد الذي يمارس الإنسان من خلاله الثبات الانفعالي في أسمى صوره. فيحيا حياة طيبة حتى في أحلك الظروف، الزهد الذي نتحدث عنه هو الذي قال عنه إمام الزاهدين في نهج بلاغته: "الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال اللَّه تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ). ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.

كان درسا عظيما ذلك الذي علمنا إياه الإمام الحسين والذي رواه ابنه السجاد إذ قال: "خرجنا مع الحسين عليه السلام فما نزل منزلا ولا ارتحل منه إلا ذكر يحيى بن زكريا وقتله، وقال يوما: ومن هوان الدنيا على الله أن رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل".

 

شاعر وأديب