الإنصاف شيمة الأشراف

لعلّ من أصعب الأمور على النفس ممارسة الإنصاف مع الآخرين، خصوصا مع أولئك الذين نختلف معهم. فالنفس، إلا من رحم ربي، ميّالة إلى بخس المختلفين أشياءهم، تنظر إليهم بغير عين الرضى فلا ترى محاسنهم أبدا، وإذا حدث أن رأتها، فإنها ترى صغيرة حقيرة وإن جلّت وعظمت.

ومن الغريب، ولا غرابة في هذا الشأن، أن يؤلف الأديب ابن وكيع التنيسي «المتوفى 393 هـ / 1003م» كتاب «المنصف للسارق والمسروق منه في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي» ثم يخرج عن الإنصاف إلى غيره، كأنه يختار الطريق الآخر. يقول ابن رشيق في العمدة: وسمّاه كتاب المنصف مثل ما سمّي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه.

وإذا تأملنا لغة الخطاب التي تشيع بين أصحاب الملل والنّحَل والفِرَق والتيارات المختلفة، سنجدها في الغالب بعيدة عن الإنصاف، تميل إلى التجني على الآخر وتسفيه نتاجه والتقليل من شأن أعلامه.

من هنا كان الإنصاف كما عبّر عنه الإمام علي في غرر حِكمه شيمة الأشراف وأفضل الفضائل. فهو إذنْ قيمة شريفة ينبغي على الإنسان أن يسعى لاكتسابها والتحلي بحليتها ليكون من المنتسبين لأهل الإنصاف الذين يمارسون العدل في أقصى درجاته، ويديرون مشاعرهم وعواطفهم إدارة تبقيها أقرب إلى جادّة العدل، وتبعدها عن دائرة الأحكام المتحيزة الجائرة.

المتأمل في آيات الكتاب العزيز يلحظ اهتمام القرآن بمسألة العدل والقسط والإنصاف أيما اهتمام، معلّما في ذلك المتمسكين به للأخذ بتلك القيم المباركة بقوة. فالعالم كله مؤسس تكوينا وفق ميزان دقيق لا يقبل الخلل والفُطور، والمطلوب تشريعا أن تكون أفعال الإنسان وأقواله منسجمة مع الميزان أيضا، كما قال تعالى: «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ». هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى نرى الخطاب القرآني ذاته يقدم لنا نماذج في منتهى الروعة من ممارسة النّصَفة في حديثه عن الآخر في مواضع متعددة، يمكننا أن نشير لبعضها اختصارا.

فمنها قوله تعالى: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ». فهذه الآية في سورة الأعراف تأتي بعد آيات عشر من قوله تعالى في نفس السورة: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى‏ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ». تأتي تلك الآية لتذكر الفريق المؤمن، ”وهذا من نصفة القرآن مدحُ من يستحق المدح، وحمدُ صالح أعمالهم بعد ما قرعهم بما صدر عنهم من السيئات، فالمراد أنهم ليسوا جميعا على ما وصفنا من مخالفة الله ورسوله، والتزام الضلال والظلم بل منهم أمة يهدون الناس بالحق وبالحق يعدلون فيما بينهم“ كما يقول صاحب الميزان.

ومنها قوله تعالى: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُون». فهذه الآية تبيّن أن أهل الكتاب ليسوا في كفة ميزان واحدة، بل إن فيهم فريقين: ”فريقا يؤدّي الأمانة تعففا عن الخيانة وفريقا لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم“.

ومنها، بل من أعظمها أمرُه لنبيه بأن يقول لقومه المكذبين: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ». يقول صاحب الكشاف معلقا على الآية الأولى: وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك. ويعلق على الآية الثانية بقوله: هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ فيه من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى المخاطِبين والعمل إلى المخاطَبين.

الأمثلة كثيرة، ولكن رعاية الاختصار تفرض نفسها. وفيما عرضناه ذكرى «لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».

شاعر وأديب