الماهوية الجينية

جبلت الطبيعة البشرية منذ الأزل على تمييز الأشياء المتشابهة ذات النمط المشترك تحت عناوين ومسميات تجمعها في قالب واحد، ليسهل التمييز بينها وبين غيرها ولوضع الحدود الفاصله بين الفئات المختلفه، بل تفرد الإنسان بين جميع الكائنات بقدرته الفكرية على خلق الكليات «وهي الصورة الجامعة للصفات المشتركة بين الجزئيات المتشابهة المتكررة وما ينبني بينهما من روابط ذهنية» والتي ليس لها وجود حقيقي خارج الوعي الإنساني، ولا يخفى ما كان لذلك من نفع حتى على مستوى البقاء، واستبدت هذه الطبيعة التصنيفية حتى إلى المختلف من الجماعات البشريةنفسها، ولا نعني هنا التصنيف الدلالي أو الوسمي وإنما التصنيف الماهوي المستبطن لسمات سلبية أو إيجابية لجماعة معينة أو عرق معين مغروسة في ذاتها ومختلطة في ماهيتها طبيعياً فهم مجبورون عليها كالقدر المحتوم.

شكل هذا التنميط أو الحكم المسبق المتحيز أسواراً عالية تفرق بين الناس لأسباب عرقيةً ودينية وحتى غيرية وهي نزعة التعالي والريبة تجاه كل مختلف، بل لم يخل المجتبع الواحد من هذا التنميط فعلى المستوى الإقتصادي الغني والفقير وعلى مستوى الوجاهات والمناصب الإجتماعيه وعلى مستوى الإنتمائات المذهبية أوالقبلية والمناطقية بل وحتى الأسرية،

قد نعتقد أن التقدم الفكري والعلمي أدى إلى اندثار هذا النوع من التنميط ولكن يبدو أن العكس هو الصحيح، فعلى الرغم من ظهور وتنامي شعارات كالمساواة وحقوق الإنسان إلا أن التنميط اتخذ منهجاً علمياً بعد ظهور نظرية النشوء والإرتقاء لتشارلز دارون وتحويلها إلى الجانب الإجتماعي، فصار التصنيف التنميطي يتنكر بلبوس العلم والجينات ليسبغ عليه المشروعيه ما أدى إلى كوارث إنسانيه باسم العلم

يبدو أن الفلسفة المثالية الأفلاطونية أو الأصل المثالي الذي يصنع ظلالاً على جدار الكهف الأفلاطوني لم تُبنى إلا على أُسسٍ غائرة في أعماق النفس البشرية، ولكن ما مدى واقعيتها؟

سنضطر هنا لعرض الفلسفة التي تقف على الجانب الآخر وهي الوجودية، والتي تقول بأن الوجود يسبق الماهيه لا العكس، أي لا ماهية تسبق الوجود ولا يولد الإنسان إنساناً بل يكون كذلك بإرادته واختياره، وهنا قُدِّمَت الحرية على الماهية فأنت ما تختار أن تكون لا ما يفترض أن تكونه.

قلبت هذه الفلسفة المسلمات الأفلاطونية رأساً على عقب، وأزالت الحواجز العرقية وغيرها بل أزالت كل شيء وأبقت الحرية الإنسانية لوحدها.

وعندما نعود لنظرية النشوء والإرتقاء نجد أن أول ما هدمت هذه النظرية هو الماهية على المستوى الأحيائي إذ أرجعت أصل كل الكائنات الحية إلى أصل واحد مزيلةً بذلك الحدود التصنيفية بين الحيوانات، بل يرجع الباحثون سبب تأخر ظهور هذه النظرية أواخر القرن التاسع عشر إلى ترسخ الماهية التصينية في الإنسان، ما جعله يضع حدوداً فاصلة بين الأنواع ويستبعد رجوعها إلى أصل واحد.

استغلت هذه النظرية لإلباس العرقية لباساً واقعياً علمياً مدعين بأن سلالةً بشريةً ما تتربع على أعلى سلم التطور، رافعين شعار البقاء للأصلح أو الأقوى كما حصل مع النازيين والعرق الآري، كما أدى هذا بعد الكشف عن أسرار الجينات وأثرها إلى تفاقم هذه الحاله وارتكاب جرائم بشعة على أساسها كما حصل من تعقيم إجباري للهنود الحمر والسود والمرضى وغيرهم في النصف الأول من القرن العشرين في أمريكا وكذلك في كندا وجنوب أفريقيا والعديد من الدول الاوروبية، ولم يكن كل هذا إلا شكلاً من أشكال الأديولوجيا العنصرية الغير مستندة على أي حقيقة علمية، كما أن النظرية تفسر التنوع على المستوى الأحيائي على ضوء الإنتخاب الطبيعي على أساس الملائمة للظروف البيئية ولا تعطي مشروعيةً للإبادة أو ما شابه.

على مستوى الدراسات العلمية لم يثبت أي تفوق عقلي لأي عرق من الأعراق على غيره، بل إن الفروق الجينية الطفيفة بين البشر داخل العرق الواحد هي أكثر تنوعاً منها بين الأعراق المختلفة، وتتفاوت القدرات العقلية تفاوتاً واضحاً بين البشر جميعاً في جميع المجتمعات ولا خصوصية لعرق عن غيره.

إذاً ما هو سر هذا التناقض؟ فعلى أرض الواقع نرى معظم هذه التنميطات صحيحة وفي مكانها إذ من اللافت تميز شعب معين بميزة معينة سلبيةً كانت أم إيجابية بل تصدق هذه الأنماط على طبقة ما أو منتمين لدين أو منطقة معينة، ما يجعل من الصعوبة بمكان محاربة أو انتزاع هذا التحيز من الذهن بينما هو يستند إلى واقع واضحٍ فاضح.

تتخذ الإجابة على هذا السؤال عِدة جوانب، فمنها الثقافي، والتاريخي، والبيئي، والإقتصادي ولا علاقة للجينات بكل هذا إلا من ناحية الفروق الشكلية فقط كلون البشرة والعينين والشعر وغيرها من سمات ظاهرية غير ذات أثر على المستوى الفكري أو العقلي.

ورغم أن غالبية المجتمع العلمي يؤكد عدم وجود أصل بيولوجي للعنصر أو العرق. فلازال الناس يستخدمون العنصر كأمارة بيولوجية لعمل استدلالات.