اليد اليسرى التي أصابت المجد

يُعتبر كارولي تاكاس واحداً من خمسة رياضيين فقط لديهم إعاقة جسدية في تاريخ الألعاب الأولمبية الحديثة التي أقيمت نسختها الأولى في العاصمة اليونانية أثينا عام 1896، فازوا بميدالية ذهبية.

قصة هذا ”الرامي المجري“ الذي نقش اسمه بارزاً في سجلات الخلود الإنساني، تستحق أن تُكتب وتُروى وتُشاهد، لأنها واحدة من أعظم القصص/ الأمثلة التي جسدت المعنى الحقيقي للمثابرة والإصرار والتحدي.

ولد كارولي تاكاس في العاصمة المجرية بودابست في 21 يناير 1910، وصُنّف كأسرع مطلق للنيران من مسدس سريع لمسافة 25م في تاريخ رياضة الرماية. وقد كان كارولي يعمل في الجيش المجري، وفاز بالعديد من البطولات والألقاب الوطنية والدولية في إطلاق النار، ولكن حلمه الوحيد كان دائماً باتجاه الألعاب الأولمبية التي تُعدّ التظاهرة الرياضية الأهم في العالم. في عام 1938، وحينما كان رقيباً في الجيش المجري، فاز بالمركز الأول في الرماية على مستوى وطنه المجر وكان في الثامنة والعشرين من عمره، الأمر الذي أهّله للمشاركة في ”أولمبياد طوكيو 1940“، ولكن القدر أراد شيئاً آخر، فأثناء تدريباته الاعتيادية في الجيش، انفجرت إحدى العبوات الناسفة عن طريق الخطأ وأصابت بدقة يده اليمنى التي هي كل شيء في حياة هذا الرامي. كانت الإصابة بليغة جداً لدرجة أن الأطباء اضطروا لبترها على وجه السرعة، لتتقطع كل سبل الأحلام الكبرى التي كان يحملها هذا الشاب الذي كان يُمني نفسه بأن يكون أعظم رامٍ في تاريخ الأولمبياد.

كان كل شيء يُنبئ بأن قصة كارولي تاكاس مع الرماية قد كتبت نهايتها الأليمة، ولكن هذا الشاب العنيد فكّر بسيناريو آخر ورفض أن يُبتر حلمه كما بُترت يده اليمنى. لأكثر من شهر، مكث كارولي في المستشفى لتلقي العلاج، وبدل أن يصبّ جام غضبه على حظه العاثر، صوّب عزمه نحو تحقيق نفس الحلم الذي لا يُريد أن يُفارقه، ولكن هذه المرة باليد اليسرى التي ”كانت تعمل بكل طاقتها“ ليجعلها أفضل يد في التصويب في تاريخ الأولمبياد.

وبعيداً عن نظرات الشفقة وعبارات التعاطف، اعتزل كارولي الناس، وقرر برباطة جأش ومثابرة أن يتدرب وحيداً على الرماية بيده اليسرى التي لم يكن بالكاد يأتمنها على مسك كوب قهوة. وبعد عام كامل على تلك الحادثة ظهر كارولي في إحدى المسابقات المحلية للرماية في وطنه المجر، واستقبله زملاؤه الرماة بكل ترحاب وإعجاب، فوجوده بينهم لمشاهدة رياضته المفضلة دليل على شجاعته وروحه الرياضية، ولكن المفاجأة المدوّية كانت بانتظارهم، حينما قال لهم: ”أنا هنا ليس لمشاهدتكم، بل لمنافستكم“. دُهش الرماة والحكام والجمهور لإصرار كارولي على المنافسة بيده اليسرى، ولكن دهشتهم العظيمة كانت حينما فاز بالمركز الأول على كل الرماة، تماماً كما كان يفعل دائماً بيده اليمنى.

ويبدو أن القدر ما زال يُعاند هذا الشاب، فقد تم إلغاء دورتين متتاليتين للألعاب الأولمبية وهما ”أولمبياد طوكيو 1940“، و”أولمبياد لندن 1944“ بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، وهو الذي كان يتدرب ليل نهار من أجل المشاركة في منافساتهما. ولكن كارولي كعادته، يعشق التحدي ولا يُجيد ندب الحظ، وواصل بكل إصرار وشغف تدريباته، واختير لتمثيل المجر في دورة الألعاب الأولمبية الرابعة عشرة في لندن 1948، ويفوز بالميدالية الذهبية في الرماية برصيد 580 نقطة وكان ذلك رقماً قياسياً لم يسبقه غيره، لتُصبح اليد اليسرى لكارولي الأفضل في التصويب في تاريخ الأولمبياد.

ولكن، هل توقف طموح هذا ”المقاتل المجري“ واكتفى بما حققه من إنجاز أولمبي غير مسبوق؟ على العكس تماماً، فقد استمر بحصد الألقاب والجوائز محلياً وعالمياً، وشارك بعد أربع سنوات في ”أولمبياد هلسنكي 1952“، ولا غرابة على الإطلاق حينما يُعلن مذيع ذلك الاستاد الضخم وسط صيحات الآلاف من الجماهير أن كارولي تاكاس هو صاحب الميدالية الذهبية في الرماية. كما شارك للمرة الأخيرة في ”أولمبياد ملبورن 1956“، وحل ثامناً في الترتيب وقد كان في السادسة والأربعين من عمره.

إن سر تميز وتفوق كارولي تاكاس، لم يكن في يده اليمنى أو اليسرى، لم يكن ذلك على الإطلاق، ولكنه كان في طريقة تفكيره ورغبته الواثقة، إضافة لمواجهة الحقيقة والواقع بوعي وإصرار، بعيداً عن اليأس والإحباط.

في كثير من الأحيان، طريقة تفكيرنا، أهم بكثير مما نملك - أو لا نملك - من أدوات وقدرات.

كاتب مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني