في حضرة الموت

لقمان عبدالله

    في قرية أبو عدي حيث تتساقط أوراق اللوز باكراً ، يخاف الجميع الوقوف مع أبي خالد ذلك السبعيني , لا لقوته و فتكه ، بل لشيء عجيب يكاد يخرق قوانين الطبيعة ، لا أحد يتمنى أن يأتي الزمان الذي يقف فيه مع أبي خالد و يبدأ بالحديث عن ضعفه و قرب موته , فسيء الحظ الذي يحدثه يحين موته عاجلاً وليس آجلاً , و يبقى أبو خالد لتعزية أهله .
 
    لم يكتشف أهل القرية ذلك إلا بعد عشرات الأرواح التي ذهبت بديلة لروحه ، فمضى حكيم القرية و عمدتها ، جاره الأول والثاني  ، الخضار و اللحام و حتى زوجته و بناته ، و آخرون  كثر .

    هلع أهل القرية فبدؤوا في عقد اجتماعات طارئة ، أسبوعية ، شديدة السرية في مجلس العمدة الجديد ، ناقشوا تعويضات ضحاياه ، و أسهبوا في توقعاتهم لسبب حالته ، و اختلفوا في علاجه ، منهم من اقترح قراءة القرآن عليه و صلاة الميت على رأسه ، و منهم من قال بعلاجات عشبية سمع عنها في بلاد الهند و السند ، و منهم من أشار بقتله و الخلاص منه نهائياً .
 
    في يوم لقائهم الأسبوعي راودت نفس لصٍ سرقة البيت الوحيد الذي به رجل , بيت أبو خالد , فأخذ يعيث الفوضى في البيت بلا مبالاة إن استيقظ صاحبه أم لا ، فماذا سيفعل عجوز هرم ، ضربة واحدة ستلقي بعظامه إلى قبرها .
 
     استيقظ أبا خالد على إثر ضجيج لِصنا و خرج ليرى ما الخبر ، فتح مقلتيه قدر استطاعته ، مفاجأة لم تكن بالحسبان ، لص يسرقني ، ما العمل ، ما العمل ؟ ، جرى نحوه في تجربة هجومية , علّ اللص يخاف و يهرب ، ولكن حدث العكس ، نظر اللص إلى أبي خالد و حذره إن اقترب و أخرج سكيناً تبدو من بعيد أنها حادة , ما كان من أبي خالد إلا أن ارتد و خاف ، وجه صاحبنا الحديث للص فقال : أتسرق بيت عجوز هرم مفلس مثلي ؟ ، أتعلم إني على حافة قبري ، ما هي إلا أيام معدودات على حين منيتي ، أهرب الآن و عد حين موتي فلا امرأة تنحبني و لا أهل يبكون علي , إني وحيد , وحيد يا بني ، سقط اللص على الأرض .
 
    خاف صاحبنا و هرع ليبلغ عن الحادثة لدى العمدة ، دق الباب مرة ، مرتين و ثلاث إلى أن فتح الباب , سأل إبن العمدة : ماذا تريد يا عم ؟ ، أسرع و نادِ أباك ، تعال ادخل إن رجالات القرية كلهم بالداخل ، إستغرب أبو خالد و توقف في لحظة تفكير سريعة ، دخل و رحب بالجميع وسط علامات ملؤها الإستفهام و الاستغراب ، الذهول و الخوف أيضاً ، فلربما علم باجتماعاتهم .
 
    أجلسه العمدة بجانبه و سأله عن سبب حضوره المفاجئ وسط خوف من كشف أمرهم ، أخبرهم بأن لص قد حاول السطو على بيته حيث ضربه بشجاعة بالهراوة فكانت هذه الضربة هي القاتلة ، سأله أحدهم بسخرية إن كان يستطيع حمل الهراوة ناهيك عن الضرب بها ، أحس أبو خالد بشيء من الخجل و أخبرهم بأنه ادعى ذلك ، كان الجميع قد تحمس ليسمع القصة الحق ، فبدأ يقولها على مضض ، فحكى عن خوفه و خشيته , و محاولته لاستعطاف اللص بحكاية موته و سقوطه في نهاية المطاف ، و أنهى حديثه بعبارة ملؤها التذمر و التهكم : لم يجد سواي ؟ أنا الكهل الذي يعيش على حافة قبره ؟ ، و إذا بعيون الجميع تكاد تخرج من محاجرها ، حاول الجميع أن يبدي اعتراضه على حديث الموت و لكن .. سقط الجميع وسط دهشة أبا خالد .
 
    أخذ يقلبهم واحدا واحد , في حركة درامية ، هل تمازحوني يا رجال ، استيقظوا ، قوموا بالله عليكم ، أخذ يصرخ بجنون : ما الذي يحدث ، ما الذي يحدث !؟.

    خرج من بيت العمدة مسرعا , مخلفا ورائه  أناس ملقاة على الأرض , و نائحات تندب رجل البيت ، العمدة الذي لم يتولى مسؤولياته لأسبوعين كاملين .
 
    عاد لبيته و اتخذ زاوية غرفته صومعة خائف و هالع ، كان يحمر خوفاً حيناً و يزرق حيناً آخر ، و يصفر في أحيان كثيرة ، بدأ بطنه يوجعه من جوع تلملم من أيام كانت صياماً ، نهض و اتجه صوب المطبخ عله يجد بعض الخبز و  الزيتون يطفئ به نار جوعه .
 
    كان متوجها ناحية الباب لولا أنه قد لمح انعكاس وجهه على المرآة المتسخة التي بجانب السرير , تأمل طويلا تجاعيد وجهه و الهالات السوداء التي أعطته مظهر المحارب الشجاع الذي لم ينم لأيام , أو لربما مظهره أقرب لمن قد تلقى ضربة قبضة يد على عينيه فاكتسبت السواد , ظل يفكر و يستنتج حتى توصل لسبب موت الجميع , حتما هو حديثي , جميع من اشتكيت له قد فارق الحياة , أخذ يبكي , فعظيم هو ما اكتشفه , كان هو السبب , هو القاتل .
 
    اقترب للمرآة و أخذ يحدق في عينيه , أخذ قراره , سألاقي ما لاقاه جميع من مات بسببي , ركز نظره في عينيه و أخذ يشتكي , متى يخذلني هذا الجسد , أنهكني المرض و قلت الحيلة , رفع يده اليسرى و أشار لها باليد الأخرى , أصبح يصرخ قائلا : ذبحتك الغرغرينا , متى يحين قطعك كي يهرق السكري الدم بلا هوادة و يأخذ بقايا روحي المتبقية , تبع ذلك لحظات صمت , كان ينظر بتحد لانعكاسه , ظل الصمت مخيما لثوان , سقطت دمعة أبو خالد و أصبح يصرخ : مت , مت أيها العجوز , أيها الكهل , أيها التعس , أحنى رأسه للأسفل و أدار جسده للناحية الأخرى , مشى قليلا و قفز لما حدث بغتة , استدار ليرى ما حدث , سقطت المرآة و تهشمت , ضحك في بؤس , و أخذ يتمتم قائلا : حتى أنت أيتها المرآة القذرة , سقطت دمعته , و توجه للزاوية مرة اخرى أشد جوعا و ألما .