مأزق التدين ,,, بين العاطفة والعقل

حسين أحمد بزبوز
أولاً، وقبل أن نخوض في غمار هذه المقالة الحساسة، والتجربة الهامة، من الضروري، أن أقدم بسؤال ضروري ومهم، هو: هل يمكن أن يكون التدين عاطفياً، مشبعاً بالمشاعر البعيدة عن المنطق وضروراته؟ أم لا؟ وفي المقابل - أيضا -، هل يمكن أن يكون التدين، عقلياً، وأكثر نبوعاً من الفكر والمنطق، وبعيداً عن العواطف الساذجة، رغم بقاء الفرد منغمساً في محراب العبادة؟؟؟.
 
هذا السؤال، المهم والمفصلي والضروري، اطرحه عزيزي القارئ، على نفسك مراراً، وناقشه مع من حولك، مع من تحب، ومع من لا تحب، وقبل أن تجيب عليه، اسأل نفسك - أيضاً -، سؤالاً أسهل وأبسط وأيسر، لتتضح لك صورة الواقع أكثر، ببساطة ويسر: فهل يمكن أن نكون نحن البشر، عاطفيون جداً، في تعاملاتنا مع بقية الناس من حولنا؟؟؟ وماذا يعني ذلك واقعاً، أي ماذا يعني، أن نكون عاطفيين فعلاً في التعامل مع بقية الناس؟؟؟.
 
ثم، لتستمر في السير نحو ردهة الحقيقة، عرج على حديثٍ آخر مشابه، لأسألك هناك عن نفسك، لعل الصورة الذهنية تكون هناك أوضح، فهل حصل أن تحطمت يوماً عواطفك البريئة الجياشة العميقة على صخرة الواقع، أمام شخص كذاب أو منافق أو ... الخ، جاءك مهرولاً بابتسامة تغر، يسأل عنك، وعن أحوالك، ويبدي لك كل الحب، وكل الاهتمام، وكل الود، لتكتشف فيما بعد، أن مشاعره في الحقيقة، لم تكن مشاعراً، وأن حبه في الحقيقة، لم يكن حباً، وأنه لم يكن في الحقيقة يهرول خلفك، وحباً فيك، ورغبة في تحقيق مصالحك الخاصة، بل كان يجري بسرعة الضوء، وقوة الانفجارات النووية، خلف هدفٍ أخر خبيث لم تدركه أنت في بادئ الأمر، أو على الأقل بصيغة مخففة، كان ذلك الشخص أنانياً جداً، يجري خلف مصالحه الأنانية الخاصة به، التي خفيت عليك في البداية؟؟؟ فتحطمت في النهاية مشاعرك البريئة والساذجة على صخرة الواقع المادي المر، لهذه الحياة الصعبة والمرة والمتشابكة والمعقدة؟؟؟.
 
فإذا كنت هنا في الأخير، قادراً عزيزي القارئ - بعد كل ما سبق لك من تجارب - على اكتشاف الفرق بين غباء التعامل مع الناس المهرولين خلفك بعاطفية عارمة عمياء، وبين ذكاء ونفع التعامل معهم بوعي وحكمة وعلى قاعدة الحياة الواقعية وتحليل معادلاتها الحقيقية، التي في الحقيقة تعني الفرق بين الحماقة والغباء من جهة، ومن الجهة الأخرى، بين النباهة والحكمة والذكاء، فأنت قادر بلا شك على اكتشاف الفرق أيضاً حينها، بين غباء التدين بعاطفية عمياء، وذكاء التدين بوعي وعقل وحكمة.
 
فهذه الحالات كلها موجودة، في الدين وفي العلاقات العامة. ويمكن للمرء المتدين العاقل، أن يختار لنفسه منها، إما التدين بعاطفية تستسلم للبيئة والموروث وتسير في مسارات مغلقة تخنق التفكير لتجعله حبيساً في صندوق تفكير ديني مغلق، وإما التدين بعقل وعقلانية وفكر ووعي وفهم يخرجك خارج التفكير التلقيني المبرمج والموروث، ويجعلك مفكراً مبدعاً يفكر (خارج الصندوق) ... أقصد أنه يجعلك تفكر ضمن مساحات العقل الحرة الأرحب.
 
وإذا كانت مسألة الخروج من صندوق التدين العاطفي المغلق المسبب للحماقات والجهل، للنعيم بالتدين العقلاني السابح في محيط التفكير الواعي الحر، مسألة مهمة هنا بالنسبة لك، فإن من الضروري أن تعرف وأن تدرك، أن ذلك التدين العقلاني وقدرتك على تحقيقه، مرتبطان بشكل مباشر، بقدراتك العقلية والفكرية والثقافية على تدمير كل الفكر الديني الموروث ( أي فرمتة كل ما هو موروث في ذهنك ) ثم العودة لبناء كل التدين والاعتقادات والتصورات الذهنية من جديد من نقطة الصفر.
 
إنها وقفة محاسبة عقلانية جادة ضرورية، يدركها كل من يعي أن: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، كما قال رسول الله . من الضروري أن يقفها كل إنسان متدين، ولو فقط لمرة واحدة في حياته. يجب أن يتخلص فيها المرء على المستوى الفكري، من كل العقائد والقناعات الدينية الأساسية الموروثة والمبرمجة مسبقاً في مراحل الضعف والمراهقة والطفولة، في ذهنه وفي لوحة روحه، بسبب وفعل وتأثير، عوامل التربية والبيئة، بكافة الطرق العقلية المشروعة، بل وبكافة الطرق العقلية والاستدلالية غير الصائبة وغير الصحيحة وغير المشروعة - أيضاً -، التي يمكن بها تنقية العقل، ومسح كافة القناعات الدينية الضرورية الموروثة المختزنة في لوح الذهن، من مساحات اليقين في ذلك العقل، بكافة الأدلة الممكنة، والتي يمكن أن تطهر بها مساحات العقل والروح، ليعود بعدها المرء من حجه الأعظم - لأن هذا هو هدف الحج الأعظم -، بعد مسح وتدمير كافة الأصنام الفكرية الجامدة والثابتة، الموضوعة في زوايا وأركان العقل، لبناء التدين والقناعات الدينية والتصورات الذهنية، من الجذور ومن نقطة الصفر والشك - قدر المعقول وقدر المستطاع -.
 
ولقد ورد عنه أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا)، والمحاسبات تتنوع وتتعدد، في فهم الناس وفقههم ووعيهم وسلوكهم وممارساتهم وتفسيراتهم، وأنا لا أجد هنا مصداقاً لتلك المحاسبات في عالم التدين، أصدق وأهم وأخطر، من أن يعيد الإنسان، في سن النضج ومراحل الفهم، بناء نفسه وروحه وعقله وفكره وتصوراته الذهنية والقلبية والعقلية الملوثة بالمألوفات والموروثات، من الجذور.
 
وبدون هذه المحاسبة أو المحاسبات الجادة والقاسية والعنيدة، فسيبقى: التكفيري تكفيرياً، والناصبي ناصبياً، والمغالي مغالياً، وعابد النار عابداً للنار، وعابد الصخر عابداً للصخر، وعابد الخرافات عابداً للخرافات، وستبقى الأوهام، ويبقى التخريف، وتبقى الحماقات، وسأعود أنا هنا في هذه المساحة من التأمل، وكلما وقف أمام ناظري متدين يتدين بعاطفة بلهاء حمقاء، لأتذكر ذلك النصاب - من إحدى الجنسيات العربية -، الذي كان ينصب فخاخه، ليستغل سذاجة زوار بعض المراقد المقدسة - على ساكنيها آلاف التحية والسلام -، وبساطة التدين لدى كثير منهم، بشكلٍ جماعي، بأن يلحق كل كذبة وكل عملية نصب، يقدمها ضمن خدماته التجارية مدفوعة الأجر، بمطالبة المغشوشين به وبزيف أخلاقه وتعاملاته، برفع أصواتهم عالياً بالصلاة على محمدٍ وآل محمد ، وكأن محمداً وآل محمدٍ، ما هم في الحقيقة، إلا مطايا وشماعات، لكل النصب والاحتيال، والنصابين والمحتالين، لتطهير نفوس الناس، بكذب الدجالين، وبصلاة لا يقصد منها إلا الغش، من كل حقد وحنق وغضب، يتبع عمليات النصب والاحتيال على الناس، لتصبح تلك النفوس الطاهرة الساذجة والبريئة المخدوعة، من جديد، مطايا سهلة للنصابين والمحتالين، ومراكب للغش والغشاشين - عافانا الله وإياكم من ذلك الانخداع وذلك الهوان -.
 
وهنا، تتضح في الحقيقة أهمية أن نستيقظ، وأهمية أن نعيد بناء ذواتنا من الداخل، وأهمية أن نعيد بناء ذواتنا من الجذور، فهذه القضية، بلا شك، هي واقعاً، قضية من أهم القضايا المصيرية في عالم المتدينين، إن لم تكن هي أهم تلك القضايا، التي يجب الانشغال بها، وأن لا يفوت الاهتمام بها ومعالجتها، كل فردٍ عاقلٍ منا، مهما كانت الظروف، والتعقيدات، في هذه الحياة الشاقة والمعقدة.
 
وهنا - أيضاً -، يمكنني أن أعرج على تقسيم التدين الموجود في الواقع لدى المتدينين، من باب التأكيد والتعزيز أو التوضيح، لأقول، أن التدين في حقيقته لدى المتدينين بشكل رئيسي، نوعان: فنوعٌ ينبع من ينبوع العقل، أو بعبارة أدق، يغذيه العقل بالنسبة الأكبر من الروافد. ونوعٌ آخر، تغذيه روافد العواطف الحمقاء والمشاعر الهوجاء البلهاء المتحررة من لجام العقل والعقلانية والمنطق، ليصبح السلوك الصادر بعد ذلك من الأفراد ومن الجماعات، تابعاً لتلك العواطف والمشاعر الخرقاء، وهذا هو الخطر الأعظم والأكبر، الذي يهدد حياة الفرد المتدين، وكذلك كيان ووجود وعزة الأمة المتدينة المؤمنة - أيضاً -.
 
وفي الحقيقة، فإن كل سجودٍ من الناحية المنطقية، أمام الله بلا عقل وبلا حكمة، مهما كانت فيه المشاعر عارمة، ومهما كان فيه البكاء عظيماً، ومهما كان فيه الشوق كبيراً، فهو في حقيقته ليس سوى سجودٌ أمام غير الله. وكل سجودٍ بعقل ووعي حقيقي وحكمة، حتى لو كان في مظهره أمام بسطاء الناس والسذج منهم، انحناء أمام الطغاة والطواغيت والأصنام والآلهة المخترعة والمزيفة، فهو في الحقيقة، ليس سوى سجودٌ حقيقي أمام الله سبحانه، تكون غاياته الحقيقية في النهاية، هي تمجيد الله سبحانه، وسعادة العباد، ونسف كل الآلهة الباطلة وكل الأصنام وكل القيم الباطلة من الوجود، مهما كان التناقض الظاهر في الصورة الخارجية، كما كان ذلك هو الحال في تلك الصورة، حين خرق الخضر سفينة المساكين، ليكون ذلك خيراً لهم، دون أن يضر ظاهر الواقعة، بحقيقة المضمون المتواري فيها.
 
وهنا حاولت عزيزي القارئ جهدي، أن أقودك للتفريق بين التدين بغباء وعاطفة وسطحية، وبين التدين بعقلانية وذكاء وحكمة وعمق ووعي - إن لم تكن من أهل ذلك الحال طبعاً -، فطالبتك هنا، بالمسير إلى الله بمفردك، مسيرة العارفين، وسير السالكين الحقيقيين إلى الله، عبر الولوج من بوابات نسف كل الماضي الملقن لك والمغروس فيك في لحظات الضعف، وتدمير كل الموروثات العقلية المختزنة في عقلك، في ساعات محاسبة حقيقية حاسمة وجذرية ضرورية للتطهير العقلي والروحي - مهما كان دينك وتدينك ومذهبك -، لتعود بعدها للبناء الحقيقي للدين، طاهراً من التلوثات، ومن إرث وأغلال الآباء والمجتمع والأمة، كيوم ولدتك أمك - قدر الإمكان - طاهراً من الموروثات ومن إنعكاسات البيئة في الروح والعقل.
 
واعلم في النهاية، أخي العزيز، أن الانتقالة الكبرى، التي أردت توجيهك لها، والتي يمكن أن تحدث في حياتك، لو طبقت تلك المحاسبة العقلية الجادة بحزم، ولو لمرة واحدة فقط في الحياة، هي الكفيلة بأن تخرجك من عالم التدين العاطفي المظلم السطحي، ومن صندوق التفكير المغلق، لتنعم بعدها بالتدين الحقيقي وبالوعي والفقه والفهم والحكمة والنضج والحرية والتفكير الحر والنور، فتغيرك للأفضل وبقوة، وهي الآن رهن أمرك وفهمك، لا أمري أنا وفهمي، العاجز في النهاية عن التأثير فيك، إن لم تكن أهلاً لذلك.
 
وهي ختاماً، وقفة مخلصة، أتمنى هنا أعزائي القراء، أن لا يفوتها أحدٌ منا في حياته، ولكم مني في الأخير ... كل الود.