رحلة الإمام الشيرازي إلى البقيع الغرقد

 


 
في عام 1961م قامت مجموعة من اليهود بتنفيذ خطة منظمة لمحاولة سرقة قبري النبي دانيال و النبي يحقوق(عليهم السلام) و اللذان يقع مرقدهما الطاهر في مدينة شوش في خوزستان إيران، تلك المحاولة التي انتهت بالفشل تلتها محاولة أخرى في وسط التسعينات في إصرار من هؤلاء اليهود على إبقاء قبور أنبيائهم معظمة بينهم و التشرف بتواجدها بينهم.

 

ذلك الشرف الذي نرى كل الأمم تفتخر بوجود مقام عظيم بينهم يؤيده العقل و الفطرة و الذي أيده كذلك كل المسلمين إلا تلك القلة التكفيرية الهدامة، فها هي مصر الإسلامية تفخر بقبر السيدة زينب (عليها السلام) حفيدة النبوة، و مقام رأس الحسين (عليه السلام) السبط الشهيد، و قبور عظماء أخرى كقبر السيدة نفيسة و قبر محمد بن أبي بكر(رضوان الله تعالى عليه) و مالك الأشتر(رضوان الله تعالى عليه) و غيرهم الكثيرين، وكذلك نرى سوريا التي تحتضن قبور آل النبي(عليهم السلام) و بعض الصحابة كحجر بن عدي و عمار بن ياسر و غيرهم، وكذلك في تركيا و المغرب و الأردن و سائر بلاد المسلمين.

فكل الأمم مسلمها و كافرها نراها تسعى إلى تكريم عظمائها، بل تراهم يتشرفون بخدمة زوار قبورهم، ويبذلون أموالهم في سبيل إحيائها، ولو تأملنا في منشأ الصراع بين فلسطين و الدولة العبرية لوجدناه صراع تعظيم المقدسات، فما أهمية القدس بدون المسجد الأقصى؟ و ما أهمية مدينة الخليل بدون الحرم الإبراهيمي الشريف؟ ألم تستنكر الدول الإسلامية جميعها محاولة (تهويد القدس) أليس التهويد هو محو معالم القدس الإسلامية و تحويلها إلى يهودية.

 

و كما أن هناك في فلسطين من يحاول محو المعالم الإسلامية، نجد نفس الهجمة عبرت المدينة المنورة عندما طمست السلفية التكفيرية منارات و قبب أهل البيت(عليهم السلام) و الصحابة و أمهات المؤمنين في الثامن من شوال لعام 1344هـ، لتبدل الصورة الإسلامية الناصعة التي تجمع مختلف مذاهب المسلمين و التي تحمل روح (مكارم الأخلاق) التي ما بُعث رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلا ليتممها، إلى صورة سلفية لا تَرى فيها سوى تِلك العُقول المُتحجرة، و الشتائم و السُباب المتناثر على مخالفيهم.

 

الإمام الشيرازي و البقيع الغرقد

رحم الله سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد الإمام المجدد الثاني محمد مهدي الحسيني الشيرازي(قدس سره) الذي ألف كتاب بعنوان (البقيع الغرقد) ليبين هول المصيبة و عظيم الجرم الذي قام به هؤلاء الصبية، و الذي تمنى الإمام الراحل بكتابه هذا أن " يهدي الله الحكام ويوفق المسلمين لإعادة قبورهم الطاهرة..  فانه يجب الاهتمام بذلك".

 

 و أَستعرض هنا بعضٌ مما احتواه هذا الكتيب الرائع الذي خطه إمامنا الراحل(رضوان الله تعالى عليه) و الذي جاء و كأنه مذكرات و تعليقات لما رآهُ سماحته في حجِهِ وزيارتهِ للبقاع الطاهرة في مكة المكرمة و المدينة المنورة.

 

مذكرات من حج الإمام الراحل

يتذكر الإمام الراحل في مقدمة الكتاب كيف كان الحج يسير و سهل على المسلمين، و هذا ما نفتقده في هذه الأيام حيث صارت الحَجّة للشخص الواحد تكلف في أبسط الظروف 4000 ريال لِحُجاجِ الداخل!!، حيث يقول الإمام بأنه قبل خمسين عام من تأليفه لكتابه هذا كان الحج لا يكلف إلا "ثلاثة دنانير" وكان يشترى بالدينار ما يقارب ألف خبزة، وكانت أربع خبزات بكيلو تقريباً!!.

 

و هنا أيضاً يذكر الإمام الراحل قصة حج جدته حيث يقول " قبل ثمانين سنة تقريباً .. ذهبت جدتي إلى الحج، فسافرت من كربلاء المقدسة إلى سوريا.. إلى لبنان .. إلى مصر.. إلى فلسطين.. إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقد دامت سفرتها سنة كاملة.

فسألت عنها عمّا لاقت من الحدود؟ قالت: لم تكن في ذلك اليوم حدود، وقد سافرت في طريقي للحج الى تلك البلاد لمزارات فلسطين وسوريا ومصر وغيرها. وقالت: إن سفرتي كانت مثل سفري الآن بين النجف الأشرف وكربلاء المقدسة. ولم يكن آنذاك فرق بين السفر براً أو بحراً."

 

توحيد الصلاة .. ظاهرة و بدعة!!

إن الإسلام دين الحرية إلا فيما استثنى ـ وهو نادر جداً ـ وليست صلاة الجماعة من المستثنى، فلماذا نُجبر للصلاة خلف من يكفرنا و يتهمنا بالشرك و يخالفنا في المعتقد؟ و هل تأتي الصلاة بالإكراه؟!

 

هنا ينتقد الإمام الراحل ما وصفها بـ"ظاهرة توحيد الصلاة"، و رأى أنه من "اللازم أن تقام صلوات الجماعة لكل من أراد من مختلف الأئمة والمذاهب في الحرمين الشريفين وفي البقيع الغرقد ومن دون أي محذور، كما كان عليه سيرة المسلمين"، فقد " بنى الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في زمانه في المدينة المنورة سبعة وأربعين مسجداً ، وكانت تقام الصلاة في جملة منها، ولم يدل دليل على أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الناس جميعاً بصلاة واحدة في مسجده".

 

منع الكتاب

ثلاثة أشياء ممنوعة في بلاد الحرمين حسب تعبير الإمام الراحل: (الهيروين) و(السلاح) و(كتب الشيعة)!!!.

 

و يتساءل الإمام الشيرازي: لماذا يمنع الكتاب؟!

ألم يشر في القرآن الكريم إلى أدلة اليهود والنصارى والمشركين ومن إليهم ولم يتصور أحد أن ذلك يضرّ بدين الإسلام، وهكذا كان الحال في التوراة والإنجيل.

 

ففي لبنان، الكتاب مجاز بكل أشكاله وصوره، فهل تمكن الكتاب أن يوجد خللاً في البلاد أو تحريفاً للمسيرة، بل بالعكس .. الفوضى نتيجة الكبت، والإنسان حريص على ما منع، بالإضافة إلى سوء السمعة العالمية.

 

بناء قباب و أضرحة البقيع

بأمر من العلماء، بنيت قباب وأضرحة على جملة من القبور من قبل المؤمنين في البقيع الغرقد، و كان البناء على قبور الأولياء معتاداً منذ ذلك الزمان، فكانت عشرات منها في المدينة المنورة ومكة المكرمة وحولهما.

وقد تلقى جميع المسلمين بكل حفاوة وترحاب هذه الظاهرة الشرعية لا في المدينتين وأطرافها فحسب، بل في سائر بلاد الإسلام كالهند بما فيها الباكستان وبنغلادش، وكذا العراق وإيران ومصر وسوريا وإندونيسيا وغيرها.

 

لماذا الهدم؟!

إن الذين هدموا بقاع البقيع وسائر البقاع المباركة لم يفعلوها إلا بالسيف من دون أي منطق عقلائي، وهذا خلاف سيرة جميع الأنبياء والمرسلين والأئمة الصالحين(عليهم السلام).

إن المنطق هو الذي يصلح للبقاء، وإلا فصاحب السيف يسقط حين يسقط سيفه، والسيف مؤقت جداً.

وبقاء القبور المباركة مهدومة دليل على أنه لازال السيف بيد الهادمين إلى الآن ولكن عندما يسقط السيف من أيديهم، ستجد المسلمين جميعاً في نفس اليوم آخذين في البناء.

 

أدلة العقل في الأزمان باقيــة                وليس يذهب إلاّ السيف والحجر

إن هارون والمتوكل ومن إليهما أعملوا كل ما لديهم من سلاح ومال لهدم قبة الحسين (عليه السلام) لكنهم ذهبوا إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، والقبة النوراء باقية بأجلى مظاهرها وستبقى إلى يوم يبعثون.

 

الخشونة و السباب

(مشرك) و(كافر) و(زنديق) تهم و جرائم صارت بقوالب جاهزة تلفق لكل من يخالفهم في العقيدة، منذ ذلك اليوم إلى يومنا هذا، ولم يسمع في أي بلد آخر في العالم الإسلامي وغيره هذه الكثرة من السبابات على طول التاريخ المحفوظ إلى الآن.

فأين ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن سورة النحل: 125

و هنا يروي الإمام الراحل ما طاله من هؤلاء المكفرة حيث يقول " إني بنفسي قد نلت من سبابهم وخشونتهم الشيء الكثير، وكان الشرطي الموكل بالعبور يضرب بعصاه الغليظة السيارات الظريفة بما لا يرضى أصحابها، فكانت تتأثر بتلك الضربة".

نتيجة لذلك العنف والخشونة التي ما أنزل الله بها من سلطان، وبأمر من المستعمرين جاء هدم البقيع وسائر البقاع المشرفة هناك.

 

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لبناء هذه البقعة الطاهرة التي حملت قبور محمد و آل محمد(عليهم السلام) و يمتعنا برؤية قبابهم الطاهرة.

﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ التوبة:32.