من رؤى الإمام الشيرازي في صناعة التغيير (2)

 

كما قلنا في الجزء السابق من هذا المقال، سنلمع في هذا الجزء إلى أبرز إضاءات الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) المتعلقة بالحراك الشعبي "الميداني" نحو التغيير قبل أن ننتقل للمحطة الأخيرة في سلسلة المقالات هذه والتي سوف تكون حول المهارات والصفات التي يجب أن يكتسبها ويتحلى بها دعاة التغيير. 

-فضح التعذيب والحرمان: "من اللازم على ممارسي التغيير فضح التعذيب في السجون، والحرمان الذي تعاني منه الأمة، في مختلف الأصعدة.. كل هذا الفضح يتم بتأليف أو نشر عشرات الملايين من الكتب، وبمختلف وسائل الإعلام الممكنة.فإن التعذيب في السجون، في كل سجون العالم الإسلامي، سواء في بلد يسمى بالإسلامي أو في غيره، جريمة شنعاء يندى لها جبين الإنسانية. بالإضافة إلى أن التعذيب يسبب تثبيط عزائم الجماهير.. وهكذا يلزم إسقاط هذا السلاح الشائن من يد الدكتاتوريين في كل البلاد الإسلامية.. أما الحرمان، فالعالم الإسلامي كله، حتى البلاد التي يتفجر في أراضيها النفط كشلال السيول، تعاني من أشد أنواع الحرمان والتأخر.. وتتدفق أموالهم إلى خزائن الغرب والشرق.. ومن الطبيعي أن حكام هذه البلاد يمارسون سياسة التجهيل للأمة، حتى ترضى بما تحصل من كسرة خبز للعيش، فإذا وعت الأمة إمكانياتها الكبيرة جداً، لا بد وأن تتحرك لأجل إنقاذ حقها" (1).

-التقدير السياسي: "من أدق فهم السياسة معرفة قدر المسافة بين الأهداف والمقدّمات ومعرفة أن الأهداف ما هي مقدّماتها فإن من لا يتمكن من فهم المقدمات يحسب أن ما ليس بمقدمة هي مقدمة فيصرف عمراً طويلاً بدون نتيجة.. كمن يطلق المدفع لأجل قتل فأرة"(2).

كما "يلزم على التيار.. أن يهيئ لنفسه أكبر قدر من المعرفة حول: وضع جغرافيا البلاد.. وخصوصيات أهاليها: من العرب والترك والفرس وغيرهم.. والأقليات التي يعيشون فيها من أهل الكتاب وغيرهم.. سوابق المستعمرين في هذه البلاد، وكيفية استعمارهم، وركائزهم وارتباطهم. الأعداء المحيطين بالبلاد.. كما أن على التيار الإسلامي أن يطالع أحوال العظام والأمم المعاصرة والبائدة ليقتدي بالناجحين، ويعرف أسباب ظهور الأمم، وأسباب فنائهم"(3).

-المبادرة: يجب أن يحرص ممارسوا التغيير على "أن تكون أمورهم حسب التعقل وتطلب الظروف لا حسب ردّ الفعل، حيث أن الإنسان إذا هيّأ نفسه لردّ الفعل يكون دائماً في أزمة يخلقها طرفه.. والمدافع في ضيق دائماً.. ومعنى رد الفعل أن الطرف يسحب الإنسان حيث أراد هو، لا حيث يريد الإنسان نفسه"(4).

-انتهاز الفرص: يؤكد (قدس سره) على استغلال جميع الفرص السانحة بذكاء وحنكة عاليين مستشهدًا بالعديد من الروايات الشريفة، ومنها: "عن أمير المؤمنين قال: (قرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمرّ مرّ السحاب فانتهزوا فرص الخير)، وقال: (إضاعة الفرصة غصة)، وقال: (من الخرق المعاجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة)".

-لا للانتحار: "على ممارسي التغيير أن يلاحظوا عدم وضع استراتيجية تؤدي إلى الانتحار فإن الانتحار أسوأ شيء..]و[أن يكون هجومهم غير مباشر فإن الهجوم غير المباشر يكون أقوى.. يلزم تحاشي التصادم مع العدو بالقدر الممكن، فإن التصادم يوجب تركيز العدو لقواه فيتمكن من كسب المعركة، وحتى إذا لم يتمكن من كسب المعركة فإن الضرر في جبهة المسلمين سيكون كثيراً. مثلاً نرى أن عدم تصادم الحركة الهندية مع الإستعمار البريطاني في قضية تحرير الهند أوجب نجاح الحركة بأقل قدر من الضرر.. فاللازم على ممارسي التغيير أن يشتغلوا بتقوية أنفسهم ويتناوشوا الاستعمار الشرقي والغربي وعملاءه من طرف خفي حتى إذا استحكمت قواهم وتمكنوا من المواجهة، دخلوا الساحة وهم على أكمل استعداد بينما العدو قد ضعف وأصبح لا يتمكن من إجهاض الحركة أو تحريفها أو سرقتها.. إلى حيث يريدون إذا لم يتمكنوا من إجهاضها، وكثيراً ما تخرج بعض الأقطار من استعمار إلى استعمار آخر.."(5).

-التعاون ونبذ التفرق والتشرذم: يحرص الإمام الشيرازي(قدس سره) في كل مناسبة على التأكيد على أن من أهم مظاهر التخلف في بلادنا هو التقسيم والحدود المصطنعة والغرق في الإقليميات المحدودة والعنصريات الضيقة. وللقضاء على هذه التصنيفات المتخلفة، لا بد من:

"أن تجعل أولاً مسودة تعاون، على أساسها تتوحد كل القوى.. وفي المرحلة الثانية، تنتخب جماعة من المثقفين.. وتكون مهمتهم صب طاقات الأحزاب والمنظمات والمكتبات ودور النشر والمؤلفين وما أشبه في تيار واحد. أما في المرحلة الثالثة، فيتحركون لتشكيل قيادة واحدة، ويتم تشكيلها بانتخاب الأكثرية.. وكل القوى والأحزاب والمنظمات الإسلامية وغيرها تصب في هذا التيار الواحد، ويكون مثله كمثل النهر الكبير.. وهذا الأمر ممكن ويسير إلا أنه يحتاج إلى حركة عاقلة وحازمة ومفكرة ومخلصة ومضحية قادرة على توحيد هذه الجهود.. إننا إذا تمكنا من توحيد القوى الإسلامية المختلفة في تيار واحد.. فإننا نستطيع عندئذ إنقاذ أنفسنا.

التعاون يعني نبذ كل التفرقات.. يجب علينا أن نفكر في التعاون تفكيراً جدياً وأن نجعله تطبيقاً خارجياً، وإلا فالمستعمرون يفرقون بيننا بألف اسم واسم، ويحاولون جر الحركة إلى التشتت ثم يهدمون الحركة جزءاً جزءاً حتى تكون البلاد لقمة سائغة في أفواه المستعمرين.. إن الكل له الحق في إبداء الرأي والمناقشة وتحري الحقيقة، لكن هذا شيء، والمحاربة وتبادل الاتهامات، والتفرقة، والتشتت، وابتعاد البعض عن البعض حتى ينتفع من ذلك المستعمر الكافر شيء آخر.. إن معنى ما ذكرناه ليس أن تبدل طائفة مذهبها بمذهب طائفة أخرى، أو يصافح بعضهم بعضاً مصافحةً خلاف عقيدته، فإن ذلك لا يزيد الأمر إلا إعضالاً، بل لكل أن يعمل حسب مذهبه وقناعاته الأصولية والفقهية، وإنما يكونون صفاً واحداً في صيانة سيادة البلد الإسلامي الواسع والأمة الإسلامية الواحدة.. فالتوحيد للصفوف من أصول الحركة التي يجب أن نراعيها قبل الحركة وبعد الحركة وحين الحركة"(6).

-استخدام الطرق الجديدة: "على ممارسي التغيير الابتعاد عن الطرق المعروفة للعدو مما يسبب أن يقف العدو في الطريق ويسده على الحركة، وهذا يتطلب اختراع الطرق غير المعروفة لدى العدو"(7).

-النفوذ من نقاط الضعف: "تتبع الثغرات الموجودة في صفوف العدو والهجوم عليه من خلالها فإن ذلك يسبب تضعيف العدو بدون أن يتحمل ممارسي التغيير عناءً كبيراً.. فإذا تمكنا من إسقاط الجزء الضعيف ضعف الجزء القوي أيضاً وأمكن الهجوم عليه"(8).

-بعثرة قوى الأعداء: "تفريق ممارسي التغيير قواهم في الظاهر حتى يشتغل الأعداء بالقوى المختلفة.. وإنما يركز ممارسوا التغيير قوتهم الواقعية على الجانب الذي يتمكنون من إسقاطه.. وهذا الطريق من أفضل الطرق لتشتيت قوى العدو، حتى لا يتمكن من التجمع لعدته وعدده، والهجوم الكاسح على القوى ممارسي التغيير" (9).

-الاستفادة من كل شيء: "الاستفادة المشروعة من كل شيء يمكن الاستفادة منه فإن كثيراً من الأشياء يمكن الاستفادة منها حتى ولو كانت مضادة، إذ من الممكن أن يصنع من الليمون الحامض شراباً حلواً، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الحياة قابلة للاستفادة منها حتى من مضارها فكيف بمنافعها؟..فعلى ممارسي التغيير أن لا ييأسوا حتى من أكبر الأعداء وأن يستفيدوا حتى من أصغر شيء وأتفه شيء" (10).

-الحذر من الاستدراج: "على ممارسي التغيير المراقبة التامة لكي لا يقعوا في مصيدة استدراج العدو فكثيراً ما يستدرج العدو الحركة المناوئة من حيث لا تعرف فتقع في الفخ الذي أرادت أن تهرب منه" (11).

وكذلك "يجب عليهم الابتعاد عن السلطات الدكتاتورية التي ملأت البلاد الإسلامية لا لدفع الاتهام فحسب، وإنما لأجل أن المقترب من السلطان وأعوان السلطان لا بد وأن ينزلق، وفي الحديث: (المرء على دين خليله). لا يمكن أن يقول الإنسان إني أقترب من القذارة ولا يلوثني منها شيء، كما إنه إن اقترب الإنسان من العطر اكتسب رائحة العطر.. فيلزم أن تكون الحركة نظيفة إلى أبعد الحدود، ولا ترتبط بالسلاطين والأمراء والرؤساء من قريب أو بعيد مطلقاً.. فإن ذلك يسبب أولاً تراخي الحركة في ذاتها، وثانياً يسبب اتهام الناس للحركة والمرتبطين بها و(من وضع نفسه مواضع التهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظن).. وفي حديث آخر: (من دخل مداخل السوء اتهِم).. فهذا أيضاً أصل يجب اتباعه من قبل القائمين بالحركة إتباعاً صارماً وإلا سقطوا. ولذا نرى في التاريخ أن كل عالِم وكل حركة اقتربت من السلطات انزلقت على الأغلب ثم سقطت" (12).

-طريق الانسحاب: "على ممارسي التغيير الاحتفاظ بطريق الانسحاب حتى إذا لم يتمكنوا من اختراق العدو ولا من البقاء في مواقفهم انسحبوا حفاظاً على ما تبقى من قدراتهم" (13).

-الاستمرارية: "الاستمرار وعدم اليأس بسبب الانهزام في معركة أو معارك.. فإن الدنيا دول، وربما إنهزم إنسان أو جماعة ثم عاودوا الكرَّة ونهضوا من جديد" (14).

-الثورة لا تأكل أبناءها: "قولهم: (الثورة كالهرة تأكل أبناءها) وليست هذه طبيعة الثورة بما هي ثورة، وإنما هي طبيعة الاستبداد سواء كانت في الثورة أو في الحكومة أو الجماعة أو التنظيم وإن لم تكن الحكومة ثورية" (15). "إن أكل الثورة لأبنائها طبيعي في حالة غياب الوعي الجماهيري، وفي حالة عدم توزيع القوة وانحصارها بفئة واحدة" (16).

-لا تحرير إلا بالإسلام: "على العاملين أن يعرفوا أن الإسلام هو المحرك الوحيد للجماهير لإزالة كل صور الاستعمار، وأشكال الاستغلال.. فإن مستقبل الإسلام كماضيه، فقد كان الإسلام وراء كل تحرير في العالم الإسلامي.. فكان الإسلام يمنحهم القدرة على الصمود والمواجهة.. والعدول عن الإسلام لا يوجب إلا مزيداً من الهزيمة، هذه شهادة التاريخ، وأدلة الواقع، فمثلاً: فلسطين ضاعت منذ خمسين سنة تقريباً، وكل البدائل عن الإسلام لم تتمكن أن تنقذ منها حتى شبراً واحداً" (17).

(1) ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين، الفصل الثالث،عنوان "أضرار السجن".
(2) المصدر السابق، عنوان "التقدير السياسي"
(3) السبيل إلى إنهاض المسلمين، ص248.
(4) ممارسة التغيير، الفصل الثالث، عنوان "المبادرة".
(5) المصدر السابق، الفصل الثاني، عناوين "لا للانتحار"، "الحرب غير المباشرة"، و"تحاشي الاصطدام بالعدو".
(6) السبيل إلى إنهاض المسلمين، ص62، 65-67، و70.
(7) ممارسة التغيير، الفصل الثاني، عنوان "استخدام الطرق الجديدة"(8) المصدر السابق، عنوان "النفوذ من نقاط الضعف".
(9) المصدر السابق، عنوان "بعثرة قوى الأعداء"
(10) المصدر السابق، عنوان "كل شيء من أجل الهدف".
(11) المصدر السابق، عنوان "خطر الاستدراج". (12) السبيل إلى إنهاض المسلمين، ص108-109.
(13) ممارسة التغيير، الفصل الثاني، عنوان "طريق الانسحاب"
(14) المصدر السابق، عنوان "الاستمرارية".
(15) المصدر السابق، الفصل الخامس، "طبيعة الاستبداد"
(16) السبيل إلى إنهاض المسلمين، ص14.
(17) المصدر السابق، ص329-330.