أخلاقيات المهنة

 

 

عندما يتم تعيين أحد ما لوظيفة معينة فإن أول ما ينبغي عليه معرفته هو ما يصطلح عليه بأخلاقيات المهنة.

وكلما عظمت مسؤوليات الوظيفة كلما كانت الحاجة للأخلاقيات العظيمة فيها أعظم وأشد.

في القرآن الكريم نجد تركيزا على ما يسبق التعيين، وهو مرحلة الاختيار بين المرشحين للوظيفة أو المنصب، حيث تتم المفاضلة وفق أسس موضوعية صارمة تركز على الجانبين المهني والأخلاقي؛ أي إلمام الشخص بمتطلبات الوظيفة من معرفة ومهارات، وما يمتلكه من رصيد أخلاقي يعينه على أداء الوظيفة دون أن ينحرف بها أو تنحرف به.

هذا أمر واضح في الآيتين التاليتين:﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ (26) سورة القصص. 

﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) سورة يوسف.

أما ما بعد الاختيار السليم للشخص ذي المواصفات المطلوبة مهنيا وأخلاقيا، فيأتي التركيز على الإتقان في أداء العمل أو ما يعرف حاليا بإدارة الجودة الشاملة.

ويمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى:﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) سورة سبأ.

يعلق صاحب تفسير الأمثل على هذه الآية قائلا: و جملة﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ معناها مراعاة المقاييس المتناسبة في حلقات الدرع وطريقة نسجها.

وفي الواقع فإنّ اللّه تعالى قد أمر داود بأن يكون مثالا يحتذى لكل الحرفيين والعمّال المؤمنين في العالم، بمراعاته للإتقان والدقّة في العمل من حيث الكمّ و الكيف في المصنوعات، ليستطيع بالتالي مستهلكوها استعمالها براحة وبشكل جيّد، والإفادة من متانتها.

قد تسألني أين واقعنا من هذا؟

فأقول لك: وكم سائل عن أمره وهو عالم. أو كما قال مالئ الدنيا وشاغل الناس؛ المتنبي:

نحن أدرى وقد سألنا بنجد ** أطويل طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق ** وكثير من رده تعليل


أسوق هذا كمقدمة لتكحيل العين بأحد خطابات التعيين الصادرة من المقام السامي لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو خطاب موجه إلى ربيبه وتلميذه المخلص محمد بن أبي بكر حين قلده ولاية مصر، يشتمل على مجموعة من الأخلاقيات الرفيعة اللازمة لمنصب خطير كهذا.

يقول في الخطاب:
فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَأَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ، وَآسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَالنَّظْرَةِ، حَتَّى لاَ يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ ، وَلاَ يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ. فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَالْكَبِيرَةِ، وَالظَّاهِرَةِ وَالْمَسْتُورَةِ، فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ، وَإِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ.

كما نلاحظ فإن الخطاب يركز على ثلاث وصايا:

  1. الصفات الأخلاقية الشخصية المطلوبة لنجاح الوالي أو المحافظ أو الحاكم الإداري أو المسؤول أو الراعي بشكل عام، والتي تتمثل في التواضع ولين الجانب والبشاشة وبسط أسارير الوجه للمواطنين.
  2. المساواة والعدل في الممارسات الخارجية. وهي مهمة جدا حتى يشعر الجميع بأنهم بالفعل سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين قويهم وضعيفهم.
    المساواة مطلوبة من الراعي بين رعيته حتى في أدق الأمور، وهو اللحظة والنظرة، فلا ينبغي له أن يلتفت لبعضهم أكثر على حساب البعض الآخر.
    وإذا كان الأمر بهذه الدقة المتناهية، فماذا عن توزيع الثروات العامة والمشاريع بين أفراد الوطن الواحد؟ أليس من الظلم أن تنال فئة أو منطقة كل شيء، ويُعطى الفتات لفئة أو منطقة اخرى؟
    إن الغاية من ذلك أن لا يشعر القوي صاحب النفوذ بأنه المقرب الأثير، فيتمادى في ظلمه وغيه، ويتعدى على حقوق الآخرين، وفي ذات الوقت أن لا يشعر الضعيف بانهيار منظومة القيم والأخلاق في المجتمع وأن العدل مطلب بعيد المنال.
  3. استحضار ديوان الرقابة والتحقيق الإلهي. فقد يهرب المسؤول من رقابة السلطة والمجتمع، ولكنه لا يستطيع أن يفر أبدا من رقابة الله الصارمة التي لا يغادر كتابها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، حتى المخفي منها، بل حتى النيات.

هذه الوصايا في الواقع لا تخص الوالي أو ذوي المناصب الرسمية العالية، بل هي موجهة لكل مسؤول في موقعه. لي ولك، وله ولها، ولنا جميعا.

شاعر وأديب