بيت الزهراء .. والتربية الحقوقية

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله الذي من علينا بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها(1) ، والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد وعلى اهل بيته الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم وظالمي شيعتهم الى قيام يوم الدين.

إن اول بيت لآل محمد هو بيت الزهراء عليها السلام ، وأول بيت جمع زوجين مطهرين معصومين هو بيت فاطمة ، هذا البيت الذي طهر الله اهله تطهيرا فقال ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا) (2)، حتى صار مهبطا للوحي ومختلفا للملائكة تتنزل الملائكة والروح فيه(3)، وقد اعلى الله شأن هذا البيت ورفع ذكره حين قال (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(4).

ان بيت فاطمة هو بيت النور والعصمة والطهارة والعلم والسماحة  والسجايا الكريمة ، وقد زاده الله تشريفا بأن جعل الدعاء فيه مستجابا ، فعن امامنا الصادق عليه السلام ( فإنه لا يدعو أحد هناك إلا استجيب له) (5)،بل وجعل الصلاة فيه مندوبة بأفضل من الصلاة في الروضة فقد سال احدهم الامام الصادق عليه السلام قائلا ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الصلاة في بيت قاطمة افضل او في الروضة؟ قال: في بيت فاطمة عليها السلام) (6).

لقد حبا الله تعالى هذا البيت برعايته منذ ان خلق الله تعالى فاطمة الزهراء عليها السلام في عالم الانوار من نوره قبل ان يخلق آدم بآلاف الاعوام فعن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ( خلقها الله من نوره قبل ان يخلق آدم) (7)، ولما ان أراد الله تعالى ان يمن بها علينا في عالم الدنيا (8)، اختار لها صلبا طاهرا ورحما مطهرة محمد رسول الله وخديجة ام المؤمنين صلواته الله عليه وعليها بل اختصها الله تعالى عن سائر نساء العالمين بأن عقد نطفتها من غذاء الجنة لتكون حوراء انسية فعن الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله (إن جبرئيل أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها فتحولت ماء في صلبي ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة فأنا اشم منها رائحة الجنة) (9)، وقد بالغ الرب الجليل في تعظيمها الى حد جعل امر تزويجها بيده لا بيد نبيه فكان تزويجها بوحي من السماء حين اختار لها عليا بعلا فعن امير المؤمنين عليه السلام ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أتاني ملك ، فقال: يا محمد، ان الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: إني قد زوجت فاطمة ابنتك من علي بن ابي طالب في الملا الأعلى فزوجها منه في الارض) (10).

فما أعظم الرعاية الالهية لهذا البيت الطاهر الذي اختاره الله تعالى ليكون بيتا يربي المعصومين من اهل بيت النبوة، الأمر الذي يجعلنا حريصين على استكشاف جوانب هذا البيت الطاهر الاسرية منها والتربوية كيما نفتبس شيئا من نوره ونستهدي به في حياتنا الاسرية، وما كانت الرعاية لهذا البيت منذ بداياته  الا ليجعله الله تعالى قدوة واسوة لنا وأنموذجا نحتذي به في علاقاتنا الزوجية ورعايتنا التربوية لأبنائنا، فتعالوا اجول معكم في فناء هذا البيت الطاهر لنقتطف من روضته الفواحة بعض ازهار في التربية الحقوقية و في بعض مسلكيات الحياة الزوجية السعيدة .

التربية الحقوقية في بيت الزهراء عليها السلام

في التربية الاسرية لا يجدي الاقتصار على ا لتوجيهات والإرشادات النظرية، بل العامل الاهم والمؤثر في التربية الاسرية هو عامل الانموذج والقدوة، فالأبناء يتغذون تربويا على سلوك وسيرة ابويهما ، فكيفما تكون مسلكيات الابوين تكون التغذية التربوية للأبناء ، خاصة وان الابناء في مراحلهم الاولى لا يتعقلون كثيرا التوجيهات بقدر ما يفهمون الصورة ويستوعبون القيم والأفكار بالتجسيد العملي فالأنموذج عامل مهم في تربية الابناء ولذا قال الامام الصادق عليه السلام ( ما من مولود ولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه )(11) ،من خلال طريقة حياتهم وسيرتهم ومسلكياتهم.

وهذا عين ما حدث في بيت الزهراء عليها السلام فقد ربت ابناءها تربية حقوقية من خلال سيرتها وتوجيهاتها ايضا ، ونعني بالتربية الحقوقية المفردات الثلاث التالية :

  1. ان تعرف ماهي حقوقك.
  2. ان تعرف كيف تطالب بحقوقك.
  3. ان تنهض ولا تتقاعس عن المطالبة بحقوقك.

فعلى مستوى التعريف بالحقوق يكفينا استشهادا بخطبها التي صدحت بها مقارعة الظالمين كمادة توجيهية وإرشادية تعرف بالحقوق المستلبة، ومن سيرتها ونهجها في حركتها المطلبية عندما نهضت تقارع الظلم وتطالب بالحقوق يمكننا ان نستلهم النهج والطريقة في مواجهة الظلم واسترداد الحقوق ، فكانت كلماتها وطريقتها في المطالبة بحقها انموذجا ماثلا امام ابنائها خاصة والأحرار عامة يتغذون عليها تربويا، بل كانت عليها السلام تتعمد اصطحاب ابنائها في تلك المواقف المطلبية ، حتى ذكروا كيف اصطحبت معها ابناءها عندما كانت تطوف ببيوت الانصار تذكرهم الحقوق والعهود المنكوثة وتستنهضهم لمناصرة الحق وأهله فعن امامنا الصادق عليه السلام ( حمل امير المؤمنين عليه السلام لها في سواد الليل والحسن والحسين عليهم السلام وزينب وأم كلثوم الى دور المهاجرين والأنصار ، يذكرهم بالله  ورسوله وعهده الذين بايعوا الله ورسوله ...)(12)،وفي سلوكها هذا دعوة عامة لكل الامهات ان يشجعن ابناءهن على المطالبة بحقوقهم بل عليهن ان يتقدمن في ملاحم الحراك المطلبي ويصطحبوا معهن ابناءهن تشجيعا وتربية لهم ، لا تثبيطهم وتخذيلهم عن النزول في ساحات الحركة المطلبية.

وقد قارعت الزهراء عليها السلام الظلم والظالمين الى آخر رمق في حياتها ، بل لم تقبل التطبيع مع الظالم مادام قائما ومصرا على سلب الحقوق، حيث رفضت حتى مجرد محادثته ، بل وأكثر من هذا وذلك عندما ابقت خط المعارضة والمواجهة مع الظلم والظالمين جبهة مفتوحة  حينما قررت اخفاء قبرها كعنوان صارخ ومعبر عن عظيم غضبها  واحتجاجها ، وقد بلغت ذروة المقاطعة وعدم التطبيع مع الظالمين عندما رفضت مشاركتهم في تشييعها والصلاة عليها .

ان بيت الزهراء عليها السلام كان عنوان المعارضة آنذاك يفد اليه كل المعارضين لحركة انقلاب السقيفة، وكان مكان لتجمعهم واعتصامهم السلمي الامر الذي ارهب الانقلابيين فعدوا الى اقتحام بيت فاطمة عليها السلام ليفضوا ذاك الاعتصام ويقضوا على المعارضة ويكرهونهم على قبول الانقلاب السقيفي.

هذه السيرة وهذه المواقف والملاحم التي سطرتها الزهراء عليه السلام في مقارعة الظالمين واسترداد الحقوق غرست في نفوس ابنائها وأعماقهم  مجموعة من القيم الحقوقية والمطلبية ، فهكذا غذت ابناءها تربويا لنراه فيما بعد قد انعكس على سلوك ومواقف ابنائها ، فما مواقف الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم عليهم السلام إلا من وحي هذه التنشئة والتربية، فهذه التنشئة هي التي صنعت الاباء في ملحمة كربلاء وصنعت المواقف الابائية لزينب وأم كلثوم عليهما السلام ، ولا نقول هذا استنتاجا فحسب بل صرح بهذه الحقيقة الحسين ذاته عليه السلام في مقولته الشهيرة ( ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة ، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)(13)، ففي لفظة حجور جمع حجر كناية عن التنشئة والتربية مفصحا بذلك عن تأثير تلك التربية التي تنشأ عليها في مواقفه التي اتخذها في كربلاء ، فهكذا صنعت الزهراء إباء كربلاء وبطولاتها  حينما غذت ابناءها بسيرتها وألهمتهم مواقف الاباء والنهوض للمطالبة بالحقوق ، ويظهر ذلك جليا خاصة عندما نتأمل مواقف ابناء الزهراء عليهم السلام الحسين وزينب وام كلثوم، إنه حقا بيت فاطمة عليها السلام، بيت اذن الله يرفع ويذكر فيه اسمه.

(1)ففي الزيارة الجامعة كما في مفاتيح الجناح نقول: " خلقكم الله انوارا فجعلكم بعرشه محدقين حتى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت اذن الله ان ترفع " .
(2)33 / الاحزاب
(3)عن عبد اللّه بن عجلان السكوني، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول:
بيت علي و فاطمة عليها السّلام من حجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سقف بيتهم عرش رب العالمين و في قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلى العرش؛ معراج الوحي و الملائكة؛ تنزّل عليهم بالوحي صباحا و مساء و في كل ساعة و طرفة عين، و الملائكة لا ينقطع فوجهم؛ فوج ينزل و فوح يصعد).

(4)36/النور
(5)الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام ج17- لاسماعيل الانصاري.
(6)المصدر السابق
(7)امهات المعصومين – للمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي .
(8)(حتى منّ علينا بكم) كما في الزيارة الجامعة.
(9)بحار الانوار – للمجلسي – ج 43 .
(10)امهات المعصومين – للمرجع الراحل السيد محمد الشيرازي.
(11)بحار الانوار ج100 – للمجلسي .
(12)الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام – لاسماعيل الانصاري .
(13)مقتل الحسين _ للسيد عبد الرزاق المقرم .