وقفة مع الشيخ السبحاني ... في برهان حساب الاحتمالات

 

 

الأدلة على وجود الخالق سبحانه وتعالى متعددة كثيرة، وهي بعدد أنفاس الخلائق إن صح التعبير. وليس معنى هذا أن نقف منها جميعاً موقف القبول والرهبة والاحترام والاعتقاد بها جميعاً والتسليم لها كلياً مهما كانت قضية الألوهية والخالقية حقيقية وتامة، فليس كل دليل على شيء صحيح هو بذاته صحيح، ورب دليلٍ يتسالم على صحته الناس جميعاً اليوم، ثم يغدو فيما بعد بعد برهة زمنية قصيرة أو طويلة كبيت العنكبوت ... أو هو أوهن من ذلك ... وإن بقت القضية الأم والأساس في جذورها صحيحة أو مقبولة.

وأنت عزيزي القارئ، يا من وهبه الله عقلاً وفكراً وقدرات فكرية وذهنية ليقرأ بقدرات عقله وملكات فكره ثم يتفكر ويفكر فيما بين يديه وما عنده، لست إمعة ولا ينبغي لك أن تتبع كل ما يقال لك من أدلة علمية أو دينية وأنت مغمض العينين أعمى أو تتعامى. وهذا ليس سوى المنطلق الصحيح للتعامل مع الآراء والأفكار والمعتقدات والقناعات، بعيداً عن مكانة وعظمة ووهج الشخصيات والرجال، الذين يبثونها أو يروجونها أو يتبنونها ويرسخونها.

وكي لا أطيل عليك الحديث هنا عزيزي القارئ، قبيل الوصول لصلب الموضوع المطلوب، فلننتقل لذلك لمقدمة تصل بنا لصلب الموضوع المطلوب، ولنقل هنا: لو قيل لك عزيزي في بابٍ من أبواب البحث والتفكير والتفكر والتأمل مسألة مؤداها، أن هناك ولداً مغمض العينين يرمي في اتجاهات متنوعة بثلاث حصيات أو أربع وضعت في يده ليلقي بها بشكل عشوائي في اتجاه علبة عصير قد تقع إلى الشمال منه وعلى بعد ثلاثة أمتار تقريبا مثلاً، فسئلت هنا حينها، كم هو هنا يا ترى احتمال أن يصيبها ذلك الولد بحصاة من تلك الحصيات التي وضعت في يده، فيسقطها برمية عشوائية من رميات يده، لسهل عليك حينها أن ترد هنا باستحالة أن تصيبها أية حصاة من حصيات ذلك الولد تلك مهما حاول وحاول، ولقلت وربما كنت جازماً أيضاً أن احتمال الإصابة هنا هو (صفر) ... من باب التعبير عن الاستحالة المتصورة لديك والمتوقعة بحسب طبيعة الاحتمالات هنا وكثرة (احتمالات الخطأ) الواردة هنا فعلاً في مقابل (احتمال الإصابة) وتحقيق الاحتمال الوحيد المرجو من حصيات الولد تلك. وهذا الكلام هنا بلا شك منسجم مع الواقع كثيراً وبشكل شبه مؤكد، ويعبر عما يحصل عادة فوق أرض الواقع في مثل هذه الحالات.

لكن، ماذا لو غيرنا هنا قليلاً في طبيعة ومحتوى السؤال والتجربة المفترضة تلك، فقلنا أن ذلك الصبي يملك هنا عدداً لا متناهياً من تلك الحصيات، وليس فقط بضع حصيات معدودات، وكذا زمناً أو فرصاً (لا متناهية) للرمي ومحاولة إصابة تلك العلبة – الهدف هنا -؟! فهل يختلف الأمر هنا كثيراً أو قليلاً؟! أم يبقى الأمر كما كان عليه في المرة الأولى دون تغيير؟!.

والمتوقع هنا بالطبع، هو أن تغير رأيك، فتقول أن (احتمال إصابة الصبي للعلبة بإحدى تلك الحصيات) هو:  تقريباً (100%)، إن لم يكن تماماً كذلك، أو بمعنى آخر فإن احتمال الإصابة المحدود والفردي المتصور سالفاً وفق الشروط السابقة، سيكون هنا حتمي ونهائي، في ظل هكذا ظرف وهكذا معادلات جديدة. أي سيكون احتمال الإصابة الآن هنا حقاً هو مجرد تحصيل حاصل، وذلك بسبب عدم تناهي التجربة إلى فرص محدودة، وبسبب خيارات التجربة اللانهائية، وفرصها اللامحدودة. وهذا هو تماماً ما قد يحصل بالمثل في ظل عدم النهائية الزمانية والمكانية (للكون) الذي نعرفه، والذي خلقه الموجد سبحانه وتعالى، في حدود زمانية ومكانية غير معلومة أو غير متناهية. فهل يصح هنا، في مثل هذه الظروف الممتدة أن نقيس اللامحدود واللانهائي أو شبهه، بما هو محدود جداً ومتناهي في حدوده الضيقة؟!!! كأن نقيس تجربة الولد ذي الحصيات الثلاث، بالكون اللامحدود واللامتناهي، في تجربة تنوع وتعدد تفاعلاته وتجاربه الكيميائية، التي تتفاعل فيها العناصر المعروفة، المولدة للمركبات المختلفة؟!!!.

هذا الكلام نفسه، ينطبق على قرد الشمبانزي عندما يضرب على الآلة الكاتبة عدداً محدوداً من المرات، فيستحيل هنا أن يخرج بقصيدة أو ببيت شعر واحد فقط وفق ما يقبله منطق العقلاء وما تفرضه حقائق تجاربهم الحياتية المتنوعة ... لكن ماذا عن محاولات لا تنتهي في زمن لا محدود وغير منتهي؟!!! هل النتيجة هي في الحالتين متماثلة ومتطابقة تماماً، كما يتوهم البعض؟!!!.

بالتأكيد ومن باب الإنصاف: "كلا"، فإن النتيجة تختلف وتتغير بين محاولات وفرص محدودة وزمان منتهي، وفرص غير محدودة وزمان غير منتهي، ومن الخطأ جداً هنا أن نرد ببساطة أن: "النتيجة والفرصة ... في الحالتين واحدة".

وهذا ما يجب أن نفطن إليه، وما يمكن الرد به هنا ببساطة على جزئية استدلالات آية الله الشيخ جعفر السبحاني (مد الله ظله العالي)، في كتابه الإلهيات باعتماده حساب الاحتمالات كدليل على وجود الخالق سبحانه وتعالى واستحالة وجود الكائنات الحية المعقدة التركيب والتنظيم عبر جيناتها من دون وجود الخالق تبارك وتعالى. حيث هنا، وخلافاً لما ذهب إليه آية الله الشيخ جعفر السبحاني - دون إنكارٍ هنا طبعاً، لفضله وعظمته وعلمه وغزارة أبحاثه - من ربط واستدلال. فإن فرص تكون المركبات الأولية للحياة (كالجينات/ والكروموسومات ... وبقية المركبات الحيوية المتولدة عنها) لا تخضع لمحاولات كيميائية معدودة ومحدودة واقعة في زمن محدود لجزيئات ذرية معدودة ومحدودة، في مقابل فرص الخطأ التي قد لا تنتهي في مثل تلك الظروف، بل إن فرص الخطأ هنا ستتضاءل حتماً كلما تمدد مختبر الكون العظيم الذي نعرفه بما نعرف عنه من تمدد جزيئات المادة (ذرات العناصر) هنا عدداً لا نوعاً وامتداد الزمن بما لا يتسع له عقل البشر من حدود وغزارة وعمق وضخامة - خصوصاً مع التأكيد على اضطرارنا للخضوع للاعتقاد العلمي بمحدودية (عدد العناصر) المكونة للمواد المتوافرة في الطبيعة -. وهنا، فلا المكان في هذا الكون منتهي ومحدود لحد معلوم يلغي فرص النجاح الممكنة ولا الزمان كذلك، بل كل ذلك مما هو لا نهائي أو أقلاً يقترب من ذلك كثيراً جداً، بحيث يعطي فرصة واسعة في النهاية لنجاح المادة العمياء في اجتياز معضلة اختبار العشوائية في تكوين مركبات الحياة المطلوبة في الظرف المطلوب والكوكب المطلوب عبر مساحة زمن غير منتهية وأدوات مختبر تفوق قدرات العد والتعداد والحساب والحصر في مختبر الكون، خاصة في ظل تفاعل عناصر ذرية وكيميائية تبدوا محدودة، وبالتالي يتمدد المختبر وتظل الأدوات هي هي ... الخ، لتعطى هنا للنجاح في النهاية فرصة كبرى.

وطبعاً، فهذا الإسقاط هنا لدليل حساب الاحتمالات في كتاب السبحاني (الإلهيات) ليس وقوفاً ضد التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى وخالقيته، كما قد يفهم البعض خطأً، وليس انتصاراً لأفكار الملاحدة المؤدية لإنكار الله سبحانه، كما قد يتصور أيضاً، لكن ذلك كله هنا فقط، من باب التأييد والتأكيد، لعجزنا وضعفنا البشري، وتثبيتاً أيضاً لضرورة النقد الديني والذاتي، الذي يفر منه البعض، بل الكثيرون منا، في الساحة الدينية خصوصاً، وإسقاط للهيبة الزائفة لنقد الفضلاء والأجلاء والعلماء، كالشيخ السبحاني (حفظه الله)، ومن هم في مثل عظمته وسمو علمه، في زمن انتشار العلم والثقافة والمعرفة وأدواتها، وذلك من النفوس التي اعتادت التقديس والتسليم الأعمى فقط وفقط. أما عظمة الشيخ - نفع الله بعلمه وفهمه - وموقفنا منها، فلها مكانتها السابقة السامقة.

 ومن الناحية الأخرى كذلك، بخصوص قضية إثبات (وجود الله سبحانه وتعالى) بالبراهين الصحيحة، فتلك أيضاً حقيقة ثابتة في موقعيتها بما لها من طرائقها وبراهينها وأدلتها القوية الثابتة. ويكفينا هنا من باب المثال فقط لا الحصر في هذه العجالة، أن نستدل بدليل بداهة تعذر إنكار ثالوث (العقل - الشعور - الإرادة)، القابعة خلف المادة في منأى عن الحواس ومباشرتها. وهي أشياء موجودة فعلاً ومتحققة يصدق بوجودها العقل ولا يمكن إنكارها بتاتاً، ولا يمكن بأنانية وغرور ذاتي متعاظم، حصرها في كائنات محدودة مثلنا نحن البشر، في حين أن الواقع يسجل حضورها في صور مختلفة ومتغايرة ومتنوعة، تعطي بعداً أبعد لحقيقتها، في مقابل كل إرادة للتحديد أو النقض، مما يؤدي لإمكانية البناء عليها كنتيجة، وهنا فإن الإثبات بلا شك يمكن أن يؤدي في النهاية بالتبع للإثبات لا النفي لما هو من سنخها ... ثم بالتبع أيضاً في النهاية للإيمان بإمكانية وجود الله سبحانه وتعالى والتسليم له في نهاية المطاف، بناءً طبعاً على دعم وتأييد (ما لا / وما لم) يمكن إنكاره منذ البدء، كما هو حينما لا يمكن تحجيم النار ولا النور ولا الظلام أبداً في أحجام صغيرة بلا دليل مع وجود أحجام كثيرة متنوعة ومتغايرة من تلك الأشياء أو الظواهر أو الحالات أو التصورات حيث لا يمكن لأحد أن يحصر الظلام أو النور فقط في بيئته أو في بيته، هذا هنا طبعاً مع حفظ الفارق في المثال والتعالي لله سبحانه وتعالى وعمق وغزارة البحث في قضية الخالقية والوجود المعقدة والشائكة والصعبة بالنسبة للكثيرين ... إن لم يكن لنا جميعاً طبعاً ... وانفتاح ذلك على العالم كله ... لا فقط على عواطفنا ونظرتنا فقط الخاصة والمحدودة والضيقة.

وفي النهاية، فلنبق هنا باب التأمل والتفكر خارج الصندوق ... مفتوحاً ... وكفى ... والسلام.

كتاب الإلهيات (ج1) - الشيخ جعفر السبحاني: (برهان حساب الاحتمالات في نشأة الحياة)، صفحة 51.