الحوار ومقاعد التعليم

 

 

 

 

تناثرت وجهات النظر المختلفة في المجتمع العربي من قبلِ الشباب المتحمسين والمثقفين وأصبح كل شابٍ مفكرٍ وله رأيهُ ووجهة نظره وطريقته في التعاطي مع الأحداث الاجتماعية والسياسة والثقافية وهذا بحد ذاته مدخل (جيد) ومساحة فضفاضة لتنشيط العقل وتبادل وجهات النظر حتى تتحرك العقول النائمة وتبدع بأفكارٍ نيرةٍ يستنير بها من يستمع للمتحاورين ومن لمْ يفكر بعد في تحريكِ عقله عبر الحوار أن يسمع للمتحاورين ويفكر فيما يقولون ويدلي بدلوه في القضايا الاجتماعية والثقافية، لكن التفكير والتنظير إذا كان في غيرِ مكانهِ وفي غيرِ زمانهِ ومن غيرِ ذي فكرٍ ولا تجربةٍ يصبح الفكر والمفكر كمن يصف الدواء إلى المريض بغير دراية ويتمنى على المريض أن يجربه لعله يطيب من علته فإذا بالمريض يزداد علة أخرى إلى علته، لأننا في العالم العربي نحتاج من المفكرين والمبدعين إلى فكرٍ نيّر من مثقفين ومتابعين يكون فكرهم وتنظيرهم بمستوى الحدث الذي يتحدثون عنه وبمستوى التعاطي الذي يتعاطون معه ولا تخرج الفكرة إلّا بدراية، ونحتاج من المنتمين إلى السلك الثقافي إلى ثقافة عالية تكون رديفة إلى فكرهم المراق على مسامع الآخرين، ونحتاج إلى صفة أخرى وهي ثقافة الحوار والمشاركة وتجربة متراكمة في الفكر والعقل الباطن كي تضاف إلى فكرهم النظري ومتابعة إلى الأحداث المحلية والعالمية والاجتماعية من أجل دمج الفكرة بالفكر والثقافة بالخبرة والتجربة الناضجة بالأحداث وتكون الفكرة المقدمة للمستمع فكرة ناضجة ومستساغة لكي تُهضم من المستمعين دون أن يصاب أحد منهم بالتسمم الفكري ودون أن تسبب لأحدهم عسر الفهم بل تكون الفكرة فكرة نيّرة تظهر الحقيقة الواضحة التي يستفاد منها ويستنير المستمعون والمتحاورون بها.
 
يفترض أن تكون القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية في الكثير من الأوطان متاحة للجميع ومن حق الجميع أن يدلوا بدلوهم فيها دون أن يعارضهم أحد، وعلى المتحدث أن لا يجعل من فكرته الفكرة الأخيرة ويصادر بفكرته أفكار الآخرين وكأنه يأمر الآخرين بتبني فكرته ومن خالفه فهو إنسان خارج عن الملة وغير فهيم وقد يتهمه بالعمالة وهذه عادة سيئة لا تليق بالعلماء ولا بالمثقفين ولا بالمتعلمين ولا بأصحاب العقول وهي عادة موجودة للأسف عند اغلب الساسة وبعض المفكرين في العالم العربي، أما المفكر وصاحب العقل النيّر فهو الذي يجمع العقول والأفكار المختلفة من عقول الناس إلى عقله وفكره عبر الحوار والاستماع وإن كانوا مخالفين إليه في بعض معتقداته وتوجهاته وحواره ومختلفين معه في المشرب الفكري.

يجب أن نرتقي بالشباب وبالطلاب على المقاعد الدراسية والجامعات ونجعل منهم نموذجًا حضاريًا في التفكير وفي المشاركة الجماعية وفي جمع الأفكار وترابطها ببعضها في فكرة نيرة ولا نخيف الطالب من المناقشة مع المعلم ولا من الإدلاء بفكرته فيتربى ويتعلم على الفكرة الواحدة التي لا تقبل النقاش.
 
على المعلم الذي يُدرس التلاميذ أن يجعل من نفسه مربيًا مرنًا يتقبل الفكرة المخالفة لفكرته ويقبل النقاش مع منّ يُعلمه ويربيه ومن هو أدنى منه في الفكر ويناقشه بطريقة عقلانية وإن تفوق الطالب على معلمه أو أحدّ معه في النقاش، فهذا هو العلم وهذه هي طريقة الاكتساب وهذه هي العقول لقد خُلقت (متخالفة) وهذا هو التعليم وأساسه، لأننا نشك بأن الإصرار من قبل الشبان في حواراتهم ونقاشاتهم الثقافية والسياسية على وحدانية الفكرة وصدقها نابعة من مقاعد الدراسة والتعليم الخاطئ وإصرار المعلمين على أن يكن الطالب متلقي ولا يحق له النقاش كما هي مناهج التعليم ذو الفكرة الواحدة، وتربية الطالب على التلقي كما هو الكاسيت، وإذا سأل الطالب المعلم فينحصر السؤال في حد الاستفسار ولا يقبل طرح الأفكار ولا تبادلها لأن المعلم في الأساس تخرج من منهج مشابه وعلى الطالب أن يتقبل فكرته ونهجه الفريد دون التفكير ودون المناقشة ودون الإضافة، وعكس ذلك التعليم تجده عند الغربيين الذين يُعلمون الطالب على أن يكون معلمًا إلى بقية الطلاب وتعطى له الفرصة تلو الفرصة لكي يظهر مهاراته.

علينا أن نعطي الطالب صفحة بيضاء ونطالبه بإملائها من أفكارهِ واقتراحاتهِ ونشاركه في النقاش ونهيئ له أرضية الحوار ولا نغلق في وجهه الأبواب فيتربى على الإدلاء بالأوامر الجزافية في بيته وفي مجلسه وفي كتاباته ومن خالفه أو أختلف معه فهو غير فهيم.

يجب علينا نزع هذه الفكرة من قاموس التعليم وقاموس المعلم ومن فكر الشباب واستبدالها بتعليم النقاش وتبادل الآراء والأفكار لكي نبني طلابنا ومجتمعاتنا بنيانًا سليمًا ونخّرج العلماء والمفكرين والسياسيين والكتّاب والإعلاميين الذين يتقبلون الاستماع والحوار للطرف الآخر وحين ينظرون ويتحدثون يتقبلون نظرية الآخرين ويستمعون إليها. 
 
الحوار الاجتماعي أحد مقومات التفاهم، وحين يكون المتحاوران أو أحدهما لا يتمتع بالنفس الحوارية ولا يتقبل الحوار كما هو شائع ومنتشر عند الكثير من السياسيين كما ذكرنا سابقًا وبعض المثقفين وأغلب العامة فإن الفكر المتبادل وإن كان فكرًا صحيحًا يتحوّل إلى جدالٍ عقيم لا يخرج المتحاورون ولا المستمعون إلا بنتيجة علاجية ولا رضا نفس ولا قناعة عقلية ولا فائدة ذاتية لأن النفس نفس جدالية لا تبحث عن الفائدة ولا عن الحلول وإنما هي ثرثرة من ثرثرة اللسان لا تسمن ولا تغني سامعيها بشيء.

على المتحاور والمناقش من المثقفين حين يطرح فكرته ألا يصر على ما يقوله وما يطرحه وإن كان مقتنعًا بصحته وخطأ الآخر في نظره، وعليه أن يعلم بأن للآخرين عقولهم وأفكارهم وحريتهم في الدفاع عن أفكارهم وفي طرح آرائهم والمدافعة عنها وحوارهم وجدالهم يفترض أن يكون كما قال الله تعالى بالتي هي أحسن ولست بالفضفاضة، ولو كنت فظًا غليظ القلب لنفضوا من حولك ومن فكرك ومن أقوالك. 
 
هذه القاعدة الفكرية النيّرة من الحوار هي التي ترتقي بالمجتمع الواعي إلى القمة في فكره وإيصال حجته إلى الآخرين دون تكلفة ودون جهد لكن للأسف بأن أغلب المثقفين في العالم العربي والإسلامي يفتقدون هذه الروح في المناقشة وفي الحوار وفي الاختلاف الفكري، ولذلك لا ننجح في أغلب الحوارات البينية، ولا نغيّر ما نريد تغييره من المغالطات في الناس الذين لا يقبلون الإملاءات عليهم لأن لهم آراءهم وتوجهاتهم.

علينا في العالم العربي وفي التجمعات الدينية خاصة أن نتعلم فن الاستماع وفن التلقي وتعليمه لأجيالنا ونتعلم فن النقاش ونبثه في أرواحنا لكي يكون العالم منا عالم بعلمه لا بشكله مستمع وفهيم وغير جدلي، ويكون الطالب منا مناقشًا بنقاش مؤدب بفن القبول والإيصال، ويكون الشارع العام خليط متجانس من المفكرين والمبدعين في الحوار لا من المجادلين، ويكون الكاتب منا كاتبًا صادقًا رقيبًا في المجتمع ومشاركًا بفكره وأفكارهم لا بفكره وحزبه ولا بفكر الفئوية والسلطوية لأن الشعوب الحرة التي تقدمت علينا تقدمت بحريتها الفكرية وتقدمت برقيها في الإصغاء وتفهمها للفكرة المضادة، أما نحن فبقين نعاني من العقم الفكري وإن أطلقنا عشرات الحوارات البينية وأصدرنا عشرات البيانات والكتب ستبقى حواراتنا وقراراتنا وكتبنا الإنشادية حبر على الورق ومحاولاتنا محصورة بين شخصيات يتجادلون على فكرة غير مقتنعين فيها في الأصل.

وحتى نؤثر في الناسِ بأفكرنا نحتاج لأن نتأثر بأفكار الآخرين الصائبة، وحتى نُبدع في العطاءِ الفكري والحجة نحتاج إلى ميزان من الإنصاف في مقابل بقية الأطراف وما التحجر الفكري إلّا حجر أصم في فكر المتحجر يحتاج إلى إزالة واستبدال بحجر فكري من الياقوت والمرجان الشفاف الذي يعكس الصورة الصحيحة، والمشاورة بين الناس هي نصف العقل ولعلها تمثل في بعض الأحيان العقل كله.

عن الإمام الكاظم عليه السلام قال: (من استشار لم يعدم عند الصواب مادحًا، وعند الخطأ عاذرًا) .

وعن الإمام علي عليه السلام قال: (من شاور ذوي العقول استضاء بأنوار العقول). وعنه عليه السلام قال: (المشورة تجلب لك صواب غيرك). عنه عليه السلام قال: (المستشير متحصن من السقط). عنه عليه السلام قال: (المستشير على طرف النجاح).

 عنه عليه السلام قال: (المشاورة راحة لك وتعب لغيرك). عنه عليه السلام قال: (الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه) .

والحوارات البينية هي جزء من المشورة، والإصرار من قبل البعض على صحة فكرته ووحدانيتها هو عمى فكري وطريقة جاهلية لا تُقبل في زمن التعليم والثقافة المتقدمة، وحين تشاهد فلمًا في التلفاز أو تقرأ كتابًا قد لا تعجبكَ فكرته وطريقته فتشعر بوحدانية الطرح والتلقي والإملاء فلا تستطيع التغيير في الفلم ولا التعبير عن رأيك ولا المشاركة بفكرك فتقوم بإغلاق التلفاز أو تغيير القناة الإخبارية لعدم قناعتك بمثل هذه الطريقة، وهذا ما نريده في الحوار أن نشارك ونقبل بالفكر الآخر.
عن الإمام علي عليه السلام قال: (حق على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء، ويضم إلى علمه علوم الحكماء).