لقطة عن شاعر ( 4 )

 

 

 

 

شاعر اليوم هو الشاعر اللبناني بشارة عبد الله الخوري (1885- 1968) و الذي اشتهر بلقب (الأخطل الصغير) و غلب عليه ، و ذلك إعجابا منه بالشاعر الأموي الأخطل التغلبي ، حيث كان يكتب بهذا الاسم المستعار ، تخفيا عن سلطات الإحتلال الفرنسي ، التي أغضبتها أفكاره و آراءه السياسية المناهضة لسيطرتها على بلاده ، فأغلقت جريدته التحررية (البرق) عام 1933 .

عرف شاعرنا بثقافته الواسعة ، و اطلاعه على أسس الثقافة العربية ، و في مقدمتها القرآن الكريم و كتب السيرة و التاريخ ، بحيث لم تتعارض مسيحيته في تعمقه العربي و الإسلامي ، كما إنه تعمق في الثقافات الغربية ، وكانت مدرسة الحكمة و الفرير اللتان تعلم فيهما اللغة الفرنسية محفزا قويا له .

لذلك كان قومي الهوى ، عربي الجذور فكرا و تطلعا ، ممتطيا مسلك النضال السياسي ، مع المحتل العثماني و بعده الفرنسي ، رغم تعرضه للتنكيل و المطاردة .

كما إنه شاعر وجداني و عاطفي من الطراز الأول ، يعيش التجربة بعمق ، بحيث يسكبها صدقا و حيوية في أبياته ، فامتزجت قوميته بعاطفته شعرا جزلا ، يلهب الخيال ، تتدفق تعبيراته عنفوانا ، و انطلاقا في مفهوم الوطنية و الحب على السواء .

فيقول عن نفسه في أحدى قصائده المعروفة :

أنا في شمال الحب قلب خافق
وعلى يمين الحق طير شاد
غنيت للشرق الجريح وفي يدي
ما في سماء الشرق من أمجاد
فمزجت دمعته الحنون بدمعتي
ونقشت مثل جراحه بفؤادي .

عرف شاعرنا في الوطن العربي بلقب آخر أيضا وهو (شاعر الهوى و الشباب) نسبة لقصيدته الذائعة الصيت ، فكان الغزل و الوصف الحسي و المعنوي ، في مقدمة أغراضه الشعرية ، فلم يكن غريبا أن يكون أكثر من نصف ديوانه ، سابحا في أمواج هذا المحيط الهادر ، لكنه لم يكن كغيره من الشعراء ، فإذا كان تقليديا في أبياته العمودية ، فهو مجدد في ألفاظه وتناغم موسيقى أبياته ، عشق الجمال و الحب و الأنس ، كما تألم من الفراق و الضياع و الخوف و الحسرة ، يقول في رائعته (الهوى و الشباب) :

الهوى والشباب والأمل المنشود        ضاعـت جمـيعـها من يـديّـا
 أيها الخافـق المعذب يا قـلبي           نزحـت الدموع من مـقلـتيّا
فحـتم عـلي إرسال دمعـي               كـلما لاح بـارق فـي محـيّا
يا حبيـبي لأجـل عينيك ما ألقى          ومـا أول الـوشـاة عـلـيّا
أأنا الـعاشـق الوحـيد لتلـقي              تبعـات الهـوى على كـتفيّا

أبدع شاعرنا في تنوع أساليبه الشعرية في الغزل ، فلم يكن غزله تقليديا كالقدماء بشكل بحت ، ففي السبك كان أكثر ليونة و نعومة ، أما الخيال و اللغة الشعبية الحية فهي ميزة تشغف المتابع له ، كما كان الوصف لديه ، حالة خاصة من الجمال لم يبلغها شاعر آخر ، فامتزاج الثقافات ، و اختلاطها بموهبته الفريدة صنع لنا شعرا غاية في الروعة ، فكانت القصة الشعرية الغزلية ميزة له عن أقرانه الشعراء الكبار .

فحين شاهد امرأة جميلة ، تشكو الفقر و العوز ، و كانت باكية محطمة ، فقال :

 شكت فقرها فبكت لؤلؤاً
تساقط من جفنها فانتشر
فقلت مشيراً إلى دمعها
أفقرٌ وعندك هذي الدرر ؟!

لعل شاعرنا تأثر بتجربة الشاعر الأموي عمر بن أبي ربيعة ، فكانت محبوبته تحمل أسماء مختلفة  مثل عفراء ، سلمى ، نعم ، هند و غيرها ، مزجها بأسلوب القصة و الحوار لكنه لم يقع في فخ التقليد بألفاظ التكرار الحواري لدى عمر مثل : قلت و قالت ، بل خرج منها بشكل ناجح ،و بفضاء أوسع .

ومن جميل ما يذكر له هنا ، أن شاعرة بعثت له بصورتها ، و قد قطعت الصورة فلم يبق منها سوى الرأس ، و كتبت له في الصورة المقطوعة :

هاك رأسي و الرأس أشرف عضو

قطعته يدي لك استعبادا .

فكتب يرد عليها :

وصل الرأس يا سليمى و لكن

أخبريني لمن بعثت الفؤادا ؟

امتاز شعر الأخطل الصغير أيضا بقصر نصوصه ، مع قوة معناه في آن واحد ، و في ذلك مكمن قوة بحسب النقاد ، بحيث يجعل شعره أبلغ و أسهل للحفظ ، فأخذت الشهرة و الذيوع بشعره  لدى العامة و الذائقة ، فكان تكريمه في قاعة الأونيسكو ببيروت العام 1961 ، و تلقيبه بلقب (أمير الشعراء) و هو لقب لم يعطى إلا له بعد أحمد شوقي ، و هذا ما أثار غيرة و حسد بعض الشعراء منه .

فيقول في قصيدة ( قد أتاك يعتذر) :

قد أتاك يعتذر ، لا تسله ما الخبر

كلما أطلت له في الحديث يختصر

في عيونه خبر ، ليس يكذب النظر

قد وهبته عمري ، ضاع عنده العمر

حبنا الذي نشروا ، من شذاه ما نشروا

صوحت أزاهره ، قبل يعقد الثمر .

كان شاعرنا رائعا و دقيقا في وصف نفسه و أقرانه من الشعراء ، فقال في قصيدة من جميلات ما كتب :

كذبَ الواشي وخاب من رأى الشاعر تاب
عُمْرُه فجر من الحب وليل من شراب .

أن الوطنية و القومية المتجذرة في شاعرنا ، لم تكن من فراغ ، فانفعاله و تفاعله مع قضايا وطنه و عالمه العربي ، و حروبه و مآسيه المفروضة عليه ، جعلته شاعرا وطنيا من المصاف الكبير ، يقول في قصيدة ( وردة من دمنا) التي امتلئت فخرا و وصفا للثورات العربية على الإستعمار الغربي حينها :

سائل العلياء عنا و الزمانا            هل خفرنا ذمة مذ عرفانا

المروءات التي عاشت بنا              لم تزل تجري سعيرا في دمانا

يا جهادا صفق المجد له               لبس الغار عليه الأرجوانا

شرف باهت فلسطين به               و بناء للمعالي لا يدانى

إنما الحق الذي ماتوا له               حقنا ، نمشي إليه حيث كانا .

في شعر الأخطل الصغير تشاهد روعة طبيعة لبنان ، فتتلاقى سهول البقاع ، و جبال صنين ، و ساحل صور و صيدا ، فكان شعره لا يفارق الجمال و الحسرة في آن ، و هو عاشق لمحرابه لبنان ، فلم يفارقه حتى الممات .

 صدر للأخطل ديوانان هما (الهوى و الشباب) و (شعر الأخطل الصغير) وفي هذه العجالة و الضيق ، لا يمكننا بحال استعراض كافة موضوعاته و تنوعات قصائده ، لكن ليسمح لي القارئ الكريم ،  بأن أرشح له بعضا من درره الشعرية ، التي تظهره عملاقا من أكبر الشعراء العرب في القرن العشرين ، فمنها على سبيل المثال :

  • بلغوها إذا أتيتم حماها
  • المسلول
  • يا عاقد الحاجبين
  • عروة و عفراء
  • رحمة ربي
  • غصة السراب
  • عش أنت إني مت بعدك .

و إلى لقاء مع شاعر آخر ، تحياتي لكم .

معلم اللغة العربية