برهان حساب الاحتمالات ... وردود القراء

 

 

 

 

لا يخلو نقاش بين طرفين متناقضين عادة من واحدٍ مما يلي: فإما طرف تفهمه ولا يفهمك، لكنه مستعد للنقاش معك بهدوء واحترام وعقلانية حتى آخر المطاف، وهذا ما يجعله إنساناً إيجابياً متعلماً يمكنه أن يرتقي دائماً بفكره وفكرك عبر الحوار، وإن كنت قد تحتاج معه للكثير من الصبر والفراغ والعناء مع الاحترام والتقدير المناسب، وإما طرفٌ ثانٍ هو في الحقيقة ندٌ لك أو كندٍ لك وأنت ندٌ له (أقلاً في المسألة محل النقاش)، فيختلف معك لكنه يفهمك ويقدرك بقدرٍ ملائمٍ من الفهم والتقدير والاحترام، وهنا فيمكن أن تحافظا معاً على محاور ومحور النقاش في حدودها المعقولة، وأن تقودا معاً الحوار في الاتجاه الصحيح أو المعقول دون الحاجة لإضاعة الكثير من الجهد والوقت في الهوامش المشوهة أو غير المرتبطة بشكل جدي بموضوع النقاش، وفي المحاولات اليائسة والبائسة للتصحيح، التي قد تثيرها أطراف أخرى أقل وعياً أو علماً وفهماً ونضجاً، وإما نقاش مع طرف ثالث لا يفهمك أو قد لا يريد أن يفهمك، وقد لا يبالي في نفس الوقت بفهمك ولا بقيمتك كإنسان، عاقل مكرم تستحق الاحترام، فيغلب لغة الشتم والسب على لغة العقل، وربما تقول عليك بالباطل بعض الأقاويل، وقد يغرق في التوهم أو الإيهام، بحيث تضيع في النهاية جميع محاور الحديث بينكما بجهلٍ أو عن عمدٍ، في شتات يأبى الاجتماع، وفي ألفاظٍ سيئة ومسيئة وبذيئة ترفضها النفوس الكريمة، فيهدم هنا كل جهد لإنجاح النقاش بينكما ... فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وليس بعد هذه الحالات الثلاث سوى حوار الطرشان ... أبعدنا الله وإياكم عنه.

ومن العقل هنا، في هذا النقاش وفي كل نقاش آخر أيضاً، أن نتواضع وأن نعترف ببشريتنا، أمام رغبات بعضنا العارمة في الغلبة وتحقيق الانتصار، فنستوعب أن النقاشات البشرية المتنوعة بإشكالاتها، لا تقود دائماً لحسم كل تلك الصراعات الفكرية، التي قد تنشب بين طرفين متحاورين. خصوصاً هنا، مع إدراكنا لوجود كل تلك التعقيدات والحالات والاختلافات والإشكالات السابقة المذكورة، ومع فهمنا أيضاً واستيعابنا، لتنوع الثقافات والحاجات وزوايا النظر ومساحات الرؤية، وتفاوت قدرات الخصوم من بني البشر، وحالاتهم الأيديولوجية والمعرفية والعاطفية.

وأنا أتصور، أن كل ذلك التنوع المذكور سابقاً، والمتمثل في الحالات الثلاث المذكورة آنفاً، كان موجوداً في (خلطة) تلك التعليقات الواردة على مقالي السابق، والذي جاء تحت عنوان (وقفة مع الشيخ السبحاني ... في برهان حساب الاحتمالات). بتنوع تلك التعليقات الشديد، وتفاوت مطلقيها، والموقف المطلوب تجاههم.

ولا يمكن هنا بالتأكيد، حين يسيء البعض، أن نحمل الكل جريرة ذلك البعض، فننهي النقاشات لجهالة ذلك البعض،. كما لا يمكن طبعاً (بطريقة أخرى)، أن نقيس الكل بذلك البعض، فنرد على الكل رداً واحداً، جامعاً لكل هؤلاء معاً. ولكن المناسب هنا، هو بالطبع أن يكون لنا مع كلٍ من هؤلاء، موقفٌ وأسلوبٌ مناسبٌ لطبيعة الشخصية التي نتعامل معها في الموقف المناسبة، خصوصاً إن كانت المواجهات فردية. فإما، الحوار الموصل لنتيجة حاسمة، عبر الدليل والبرهان، أو تبادل الآراء والمعرفة وفتح الآفاق ليبحر كل محاور منا فيما بعد بحرية في عالم الفكر الفسيح وفضاء الله الرحيب، أو الصمت وكلمة السلام، أمام كل جهلٍ وعنادٍ، وعند كل من قد يجر الحوار والفكر والنقاش، لمستنقعات التخبطات أو السب والشتم والتجنيات، التي تورط هو في عوالمها. أما هنا، في فضاء هذه المقالات، التي هي كاللوحات الفنية الصامتة الناطقة أمام من يستنطقها، فنحن هنا في موقفٍ عام، ومشهدٍ مفتوحٍ للجميع، ولسنا في موقفٍ فرديٍ خاص. فمن شاء هنا أن يبصر فليبصر، ومن شاء أن يتدبر فليتدبر، ومن شاء أن يتحاور بهدوء وعقلانية لا تنشد الغلبة الفرعونية ولا القارونية بل الفكرية فقط لا غير فليتحاور، أو فليرحل ... والسلام.

وعوداً هنا على مقالي السابق تحديداً، وتعليقات القراء الأعزاء عليه - والتي أرحب بمعظمها -، فقد كان البعض هناك في تعليقاته على ذلك المقال، هادئً ومؤدباً، وإن التبس عليه الفهم - بحسب وجهة نظري -، وهو معذورٌ هنا طبعاً، أو أنا ملتبسٌ إن شاء. وأما البعض الآخر، فأرى أنه قد تحدث بحديث راقٍ ومؤدبٍ وملائم لمحور الحوار والنقاش المثار بالقدر المعقول والملائم (بل ربما بما هو فوق ذلك أيضاً)، مما ينم عن الفهم والإدراك وسعة المعرفة والعلم والاطلاع - وأنا طبعاً لم أعول على تلك الأسماء النتية الواردة في التعليقات على المقال كثيراً من باب الاحتياط، وأرجو من القراء الأعزاء التنبه لذلك -. وأما الطرف الثالث، فقد كان للأسف طرفاً سلبياَ سيئاً بالفعل - وأرجو المعذرة على هذه المصارحة الجارحة -، حيث ابتعد بنا البعض كثيراً عن روح الحوار والنقاش العلمي والفكري الناضج والهادف المفترض، حين عمد للغة السب والشتم، فهل يرضي هنا مثل هؤلاء، أن يوجه السب والشتم لأنفسهم وذواتهم المقدسة منا يا ترى، أو من قبل الأطراف الأخرى في النقاش؟!!! وهل يرون ذلك يا ترى حلاً مناسباً وبديلاً ملائماً للاحترام؟!!! ولرد الحجة بالحجة؟!!! ولتليين النفوس وجلب المودة وكسب الخصوم، بالدليل والبرهان والحجة الدامغة والمودة والمحبة والإحسان؟!!!.

فعجباً إذاً ... "مما يحكمووووون"!!!!.

ودعونا هنا، بعد هذه الإطالة في هامش الموضوع، نعود للب موضوعنا السابق، وجوهر قضيتنا الفكرية، كي لا يعوج بنا الموج العاتي للانفعالات والعواطف وتشعباتها الكثيرة، التي يولدها ردع السب، والتوجه للفرز وبيان تعدد مواقف المحاور من الآخر، حيث يمكن هنا أن تضيع بنا المحاور في التشعبات الهامشية والاحتقانات النفسية. فالقضية في الحقيقة، لم تكن سوى نقد في (جزئية) من قضية متشعبة، ونقاش في مفردة واحدة واضحة، هي في حقيقتها بعضٌ من كلٍ مركبٍ من مجموعةٍ من قضايا الاستدلال في الاعتقاد بالله، ولم يكن غرضنا الكل كما أسلفنا. وقد كانت تلك الجزئية هي جزئية برهان (حساب الاحتمالات) الوارد في كتاب الإلهيات للشيخ السبحاني - حفظه الله -. وكان الغرض هو فقط، تصحيح بعض المفاهيم والأفكار الخاطئة في مواضيع الاعتقاد، من خلال ذلك النقاش. وأيضاً، فتح الأفق للرقي بالقارئ الكريم وحسه النقدي وعقله العلمي ليس إلا، للخروج به من التبعية العمياء وجمود الفكر، الذي ابتليت به هذه الأمة المسلمة بشكلٍ عام. أما الإيمان بالله سبحانه - وهو الثابت عندنا لا محالة - فقد أثبتناه ولم ننكره، مع إيماننا بأسبقية الخالق وتعاليه على كل تلك البراهين والإثباتات والأدلة الزائفة والزائلة والناقصة، بل والمتوهمة أيضاً.

وهنا، فلن يحضرني احتجاجاً على كل من يقف أمام تلك البراهين ونظيراتها بصنمية مفرطة، إلا الاستقواء بقول الإمام الحسين ، فيما روي عنه في دعاء يوم عرفة، وهو الأقرب منا بلا شك للحكمة والعقلانية والفهم السليم والمنطق: " إِلهِي ... كَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْكَ بِما هُوَ فِي وُجُودِهِ مُفْتَقِرٌ إِلَيْكَ أَيَكُونُ لِغَيْرُكَ مِنَ الظُّهُورِ ما لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟ مَتى غبْتَ حَتَّى تَحْتاجَ إِلى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ وَمَتى بَعُدْتَ حَتَّى تَكُونَ الآثارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟ عَمِيَتْ عَيْنٌ لا تَراكَ عَلَيْها رَقِيباً وَخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلَ لَهُ مِنْ حُبِّكَ نَصِيباً".

فالله سبحانه وتعالى بهذا التعالي، لمن يبصر الحق والحقيقة، وليس دون ذلك، ليحتاج لدليلٍ مخترعٍ ومخلوقٍ، يدل عليه وهو من خلقه. وهو سبحانه وتعالى، عندي وإلي – إن شاء الله -، أقرب من كل تلك البراهين القاصرة والخائرة، التي ليست لها الأسبقية على الذات الإلهية المتعالية. وإن البراهين البشرية كلها في الحقيقة، لن تتجاوز عن أن تكون عندي، صنيعة جهل وحاجة ومحدودية ذواتنا البشرية العاجزة والمحدودة والفقيرة والفانية، والقادمة مع كل تلك الأدلة من الفناء والعدم. فهي، محدودة في حقيقتها لمجاراة قدراتنا البشرية. وهي، وإن كانت معيناً لنا على الوصول لحالةٍ من الثقة والاطمئنان والاعتقاد الضروري، لكنها في النهاية، ليست الحقيقة التامة، التي لا يمكن أن يحيط بها إلا خالق الأكوان ومدبرها سبحانه.

والنتيجة هنا، هي: أن الكل منا قاصرٌ ومقصور النظر، مضطر أن ينظر لله سبحانه وتعالى، من خلال تلك العين المحدودة، والبراهين القاصرة والناقصة والمخلوقة، بقدر نفسه ومحدودية عقله وكينونته، لا بقدر الله سبحانه وتعالى وأسبقيته وعظمته ولا محدوديته، وغناه جل وتعالى عن كل تلك الأدلة، وعن كل تلك الآلات والمخلوقات، التي نعتبرها موصلة إليه سبحانه.

نعم، نحن بحاجة ماسة لتلك البراهين، لمحدوديتنا وعجزنا. لكن هذا طبعاً، ليس مبرراً للتبعية العمياء والتخبطات، أو للطعن في كل من يتبنى الفكر الحر، فينطلق ليناقش بعقلانيته البشرية، في كل تلك البراهين والأدلة، ليبحث في الأقوى والأفضل والأصح منها. فهذا هنا، هو حكم الضرورة العقلية البشرية الواقعية المفروضة علينا جميعاً دون استثناء، بحكم طبيعتنا ومحدوديتنا، التي لا مفر منها. وهنا فإن النقاش في تلك الأدلة، والبحث في أفضلها، مما لا مفر منه من ضرورة الخضوع للعقل البشري المحدود رغم محدوديته، فلا يمكن النزاع هنا في ضرورة ما هو ضروري ومثمر في الحياة البشرية الواقعية.

وهذا في النهاية من جهة أخرى، هو بحكم الواقع، والكلام هنا موجه لكل الخائفين على الأديان والأديان السماوية خصوصاً، مما ينتج قربنا إلى الله سبحانه وتعالى أكثر وليس العكس، وذلك بالطرق المتاحة للبشر، وفق قواعد تلك اللعبة العقلية المفروضة والواجبة علينا جميعاً بداهة ومنطقاً رغم إشكالاتها. وهذا الوصول هنا للبارئ سبحانه، وللعقيدة الموجبة للثبات والاستقرار العاطفي والسيكولوجي البشري، هو طبعاً منية كل تلك الأنفس المؤمنة الحائرة والتائهة في ظلمات وتشعبات هذا الكون الكبير والصعب والمعقد، المتعطشة للحقيقة المنتجة للثبات والاستقرار النفسي والروحي، بل وأيضاً الاجتماعي.

وسيبقى الله سبحانه وتعالى هنا دائماً، قبل حاجاتنا النفسية والعاطفية تلك، وقبل كل تلك الأدلة والاستدلالات، بلا شك، أقرب لكل حيٍ منا، تدب في جوانحه الحياة، ولا يحتكر الحياة في نفسه المحدودة والقاصرة، من كل شيء آخر. إنه سبحانه في النهاية ،أقرب إلى الشعور من (الدليل والبرهان) ... بل ومن حبل الوريد ... لو كان هؤلاء البشر المتحاورين والمتناقشين هنا أو هناك ... يبصرون أو يعلمون أو يعقلون أو يشعرون.

وهنا، دعونا أيها الأحبة، ننتقل لبعض النقاط المتنوعة، التي أثارها بعض الإخوة الأعزاء، في التعليقات والمداخلات الواردة على المقالة السابقة:

لقد كان النقاش واقعاً كما سلف، منصباً في تلك الجزئية البسيطة التي هي البرهان الرياضي (حساب الاحتمالات)، الذي يرى البعض أنه دليل (من الأدلة المعتبرة) لإثبات الاعتقاد بالله سبحانه، في مقابل تلك المادية القائلة بأصالة المادة وبحدوث الكائنات الحية عبر تلك التفاعلات الكونية المنتشرة والمستمرة في كل هذا الكون، دون حاجة لوجود الإله بحسب الافتراض. وكان خلافي مع الإخوة الأعزاء هنا، هو في أن هذا الدليل (باعتماد الشيخ السبحاني)، غير قائم على منهج عقلي صحيح، يجنب ذلك المنطق الرياضي الوقوع في الخطأ، لأنه يفترض (محدودية التجربة الكونية، ومحدودية الزمان والمكان)، وهذا باطلٌ بوضوح عقلاً ومنطقاً وتجربةً، أو أقلاً يحتاج منا لدليلٍ وبرهانٍ علميٍ ومنطقي وعقلي رصين، يمكن التوكؤ عليه، لإثبات أن التجربة الكونية ليست ممتدة بل هي محدودة، بل محدودة جداً. فأين هو هذا الدليل والبرهان، الذي يناقض تلك الحقائق الثابتة الواضحة لدى جميع البشر، القائلة بامتداد الزمان، وكذا أيضاً المكان، إلى نهايات غير موجودة، أو غير معلومة؟!!!.

هنا ولأنني كنت أتحدث عن هذه الجزئية فقط، وهذا الخلل تحديداً، مبيناً فقط تلك الجزئية المتجاوزة، والمعطى المهمل، فقد جاء النقاش في المقالة السابقة بحجم تلك الجزئية والاستدلال عليها فقط لا غير كما ذكرت، ولم ندخل في بعض التفاصيل والتشعبات الفرعية الأخرى، وأيضاً لم ندخل في بقية الأدلة الأخرى المرتبطة بقضية الاعتقاد بالله، لأن الغرض ليس هو حتماً إنكار الله سبحانه. ويبدو لي، أن وجاهة تلك النقطة (المذكورة) تحديداً، قد اتضحت هناك للبعض أقلاً، وأولهم السيد الحيدري (حفظه الله)، وإن جاء الخلاف في النقاش في بعض التفاصيل والتفريعات الجانبية، التي لم تكن ضرورية ولم تكن محل البحث في المقالة السابق - من وجهة نظري -، ولم أرى لها ارتباطاً ضرورياً أو مناسباً بالموضوع الأساس، والتي سيكون لها محلها المعتبر، هنا في بقية النقاش، وذلك لتطرق الإخوة لها ولربطهم لها بموضوع النقاش فيما سبق بطريقة ما، لرؤيتهم لها بالطريقة التي أوحت لهم أنها ضمن نفس المحور والموضوع، وليست تفريع للموضوع خارج في الحقيقة عن صلبه وعن ضروراته. وهذا اضطرنا هنا لبيان وجهة نظرنا، رغبة منا في اكتمال الفائدة.

لقد طرح الإخوة الأحبة، اعتراضات وأمثلة متنوعة. بل وشرق بعض الإخوة وغربوا أيضاً. وبقر النقاش ومحوره كثيراً، لتفتح لنا منه محاور أخرى متنوعة وممتعة عديدة، تثير الباحث الجاد والمتأمل، ويمكن أن تكون مصدراً للفائدة للبعض أقلاً. ولا شك أنه لا ما نع عندي في نقاش كل ما ذكر منها، خصوصاً ما أراه منها ضرورياً ومناسباً أو مفيداً، مما سيتسع له صدر هذا المقال المطول. لذا، فسأحاول هنا بيان وجهة نظري، ونقاط الاتفاق ونقاط الخلاف فيما ذكر أو بعضه، ما أمكن. وأرجو المعذرة هنا على التقصير ... والله من وراء القصد.

أولاً، يقول السيد الحيدري: "إن وجود فارق بين مثال الولد وهو يرمي العلبة ضمن إطار زمني محدد ومتناهي وفرص معدودة وبين مثال الولد وهو يرمي العلبة ضمن إطار زمني مفتوح ولا متناهي وفرص محدودة لا شك فيه، فمستوى احتمال الإصابة في الأول منخفض جداً ومستوى احتمال الإصابة في الثاني مرتفع، ولكن مثال الولد يختلف عن موضع الكلام في دليل النظم  ...". وهذا الكلام يظهر منه بلا شك قبول السيد بالبرهان من حيث المبدأ الرياضي الصحيح ومحور النقاش الأساس، لكنه (أي السيد الحيدري) اختلف معنا هنا في بعض التفاصيل الأخرى، التي شرط صحة الدليل بصحتها، والتي رأى ربط الدليل بها من باب الضرورة كما هو واضح – لأنه بلا شك ليس في مواجهة مع من ينكر وجود الله، لينتقل معه للبحث في دليل آخر، يثبت له من خلاله وجود الله سبحانه -، فوصل بنا هنا عبر هذه الانتقالة السريعة، ومن خلال تلك القناعة والتفاصيل المتفرعة والمضافة للموضوع، للنقض الشكلي، وهدم الاستدلال الذي قدمناه ظاهرياً فقط، لا بشكلٍ جوهري. فما هي هنا تلك التفاصيل المضافة يا ترى في جوهرها؟!!! وما ربطها بالموضوع؟!!! وهل هي برهان حقيقي ينقض ما ذهبنا إليه في نقاشنا السابق، بالفعل؟!!! أم هي مجرد انتقالة لنقاش جديد لإثبات وجود الله سبحانه، يمكن أن تقدم فقط للمنكرين لله سبحانه، في موضع الإنكار وحده؟!!!.

يرى السيد الحيدري أن :"مستوى احتمال الإصابة في التمثيل بالولد وان كان مرتفعا ضمن الزمن والفرص المفتوحة، ولكنه لا يدل على نظم في عملية إصابة الولد العلبة برمتها" ... ولعل السيد قد غفل عن حقيقة - نعود لبيانها أكثر لاحقاً - هي وجود (النظم في مشهد الإصابة بمفرده، من التفات الولد ووقوفه مواجهاً للعلبة بشكل صحيح، ثم رفعه يده بالشكل المناسب، وحذفه الحصاة بقوة ملائمة، ثم سقوط الحصاة مع الجاذبية الأرضية وفق قانون دقيق، لتصيب العلبة في موضع ملائم فتسقطها)، فهذا المشهد عند من لم يشاهد بقية المحاولات العشوائية الضائعة - التي سنقبل تجاوزاً خلوها من النظم -، عجيب ومدهش، فوق كونه لا يخلوا من ذلك النظم الذي طلبه السيد - حفظه الله -. وهنا يسقط استدلال السيد، ويبقى استدلالنا صحيحاً، لعدم انتفاء النظم.

وهذا هنا يجعل هذا الدليل بلا شك مما يمكن أن يستدل به الماديون كمثال للمقاربة، ثم القول بأن الجزيئات الحية التي لا تخلوا من نظم ونحتج بها - نحن المسلمون والمؤمنون بالله -، وهي الكروموسومات والجينات (ثم تبعاً كذلك الحياة، التي تولدت منها ومن الخلية الحية الأولى، بكاملها) بسبب نظمها هذا، إنما هي جزء من مسلسل تفاعلات كامل، كان فيه مليارات المليارات من التفاعلات العشوائية، التي فشلت في توليد النظم المناسب، إن صح تصديق هذا التعبير من قبل المؤمنين بالله سبحانه، القائلين بالنظم كدليل على الخلق، وإن كان هناك فعلاً شيءٌ واحدٌ في هذا الكون يصح أن نقول أنه يخلوا واقعاً من مفهوم النظم والنظم المناسب. لأن هذا الفرز بحد ذاته، إشكال على برهان النظم نفسه، عند اعتبارنا للنظم دليلاً على الخلق، وفق تفصيل سنوضحه لاحقاً، في تفريعٍ يستحق البحث.

ومن جهة أخرى، فإن تفاعلات الجينات - التي هي دليل نظم، على قول القائلين بالفرز - المشاهدة في هذه الحياة، تحدث فيها أخطاء لا تنتهي، وتنتج عنها كثير من التشوهات المستمرة، ولا يمكن إنكار ذلك، فعلى ماذا يدل هذا (الانتفاء للنظم)، وحدوث تلك التشوهات، إذاً؟!!!.

وما أقصده هنا، هو أن الإدعاء هنا بوجود النظم في بعض جوانب الكون، كما في أشكال الحياة وتركيب الجينات، وعدم وجود عشوائية - رغم تعدد نتائج تفاعلات الجينات والحياة -، لنقض مثال الولد الذي يحتوي (مشهد النظم) والكثير من (مشاهد العشوائية)، في حقيقة المشهد الكامل للكون وتفاعلاته، ليس دليلاً صحيحاً يمكن من خلاله رد دليلنا، ولا رد مزاعم الماديين، فالنظم والعشوائية - المفترضة - إذا دققنا النظر، موجودة في كلا المثالين، بما لا يدع مجالاً لرفض مثال الولد ... وإلا إذا لم تكن هناك عشوائية بتاتاً – إيماناً بالنظم الشامل - فمن أين يولد برهان النظم أساساً؟!!!.

وبالتالي، فالمفروض هو قراءة الواقع للاحتجاج به على الماديين، كما تجب القراءة الصحيحة لمثالنا للرد عليه، وليس العكس، بفرض العقيدة على الواقع الخارجي بالقوة، أو تفسير القضية المناقشة في مثالنا بطريقة خاطئة تبتعد بنا كثيراً عن الدقة العلمية والمنطقية المطلوبة. لذا، فالمطلوب هنا من الجميع، هو التأني في التفكير قبل إصدار الأحكام، والاستماع للطرف المقابل بدقة وتأمل، ولا أظن السيد الحيدري، يحيد أو يعجز عن ذلك هنا.

وعودة لبرهان النظم والتفصيل فيه، فإن الاحتجاج ببرهان النظم في جوهره بحرٌ عظيمةٌ لججه، وهو يستتبع وفق كلام القائلين به كلاماً كثيراً شائكاً، ألمحنا إليه سابقاً في إشارات سريعة. وفي التفصيل هنا سنجده ينتج نقض البرهان نفسه، وذلك من خلال القول بأن الكون مجزأ لحالات نظم وحالات بلا نظم. فيدل النظم حينها على الخالقية، بعكس غياب النظم. وهذا يستتبع سؤالاً جوهرياً هو: "هل ما هو منظوم مخلوق؟! وما ليس فيه نظم ليس بمخلوق؟! أم أن النظم ليس شرطاً أساسياً لإثبات قضية الخلق - فالمنظوم وغير المنظوم من مخلوقات الله سبحانه - ؟! وحينها فما الحاجة لبرهان النظم وللاستدلال به من أساسه، لمن يقول أن كل شيء مخلوق، سواء كان به نظم أم لم يكن به نظم، خصوصاً في موضوع نقاشنا هنا في قضية (برهان حساب الاحتمالات)، الذي أثبتنا منطقياً فشله في صيغته في كتاب الإلاهيات، فتم الاعتراض علينا بإدخال دليل النظم بشكل انتقائي، لم يكن موفقاً بتاتاً، غيب النظم من مثال الولد؟!!!. وإذا كان الطرف المناقش يؤمن بالقول بشمول النظم لكل جزء وكل شيء في هذا الكون، فمن أي جهة وبأي منطق تم الاعتراض على طريقتنا في حسابنا للاحتمالات؟! وكيف يجوز نفي النظم من أي مثال أو تفاعل ومنها (مثال الولد)، مع وجود الإشكال السابق على برهان النظم نفسه؟!!!.

يقول السيد الحيدري: "والخطأ في التمثيل يكمن في العلبة إذ لا يمكن تشبيه نجاح المادة العمياء في خلق هذا الكون ضمن الزمن والفرص اللامتناهية بنجاح الولد في إصابة العلبة ضمن الزمن والفرص اللامتناهية، والسبب ان إصابة العلبة فعل واحد يؤمل تحققه بمستوى مرتفع وفق قانون حساب الاحتمالات، اما إصابة المادة العمياء حسب تعبير الكاتب العزيز في خلق وتكوين مركبات الحياة المطلوبة والمعقدة التركيب والتنظيم والتي يرتبط بعضها بالفلك ونظم حركته والهواء والماء والغازات وجميع المخلوقات المنوعه بقوانينها فهو ليس فعلا واحدا بسيطا لا نظم له".

فهذا الاستدلال، وبتطبيقنا الكلام السابق على كلام السيد، يبطل لعدة وجوه. أولها أن النظم في حادثة الولد موجود بلا شك في (جزئية مشهد الإصابة) كما أشرنا سابقاً، وثانيها أن القول بأن (الحوادث المفردة) ليس بها نظم يستتبع إشكالات - تم إيضاحها -، تؤدي للقول بأن بعض الكون أقلاً غير مخلوق لأنه (حوادث مفردة) بلا نظم، أو القول بأن برهان النظم بلا قيمة أساسية أو حقيقية لأنه لم يشمل الكل لتكون له تلك الدلالة المهمة التي نطلبها في كل نقاش مرتبط بقضية الخلق، والحقيقة التي لا أتوقع غيابها عن السيد الحيدري - حفظه الله - هي أن جميع أجزاء هذا الكون بجميع ذراتها ومفرداتها بما فيها (مثال الولد) لا تخلوا من النظم، فنعود هنا لنقول بانتفاء الاحتجاج هنا من جذوره، والنتيجة في النهاية ليست سوى خطأ في فهم وتفسير السيد لمثال (الولد وإصابة العلبة)، ليبدو خالياً من النظم.

ثم إن النظم لجزيئات الكيمياء الحيوية التي نتكلم عنها، لا يحتاج للربط - الذي ذكره السيد الحيدري - بالأفلاك والكواكب، وإن كان مرتبطاً بها كأي شيء آخر ومنها (مثال الولد). فلا شيء في هذا الكون بالمعنى المنشود (منفصل). والتفاعلات هنا، قد تحدث في الماء أو الهواء أو البراكين أو أي بقعة من بقاع الكون، بكل احتمالات التنوع والتمايز في ظروفها ومكوناتها، وتكون مرتبطة وغير مرتبطة ببقية الكون في نفس الوقت، بحسب المقصود من الارتباط ونفيه.

ولو عدنا هنا للواقع من جهة أخرى، واستقرأنا الحياة وما هو موجود فيها من تفاعلات، وبحثنا في أشكال النظم التي توجدها تفاعلات المادة العمياء (أي ما نشاهده ويشاهده المادي في الحياة بعينه ويدركه بحواسه من فعل وتفاعل مادي في مختبر الكون العظيم وأجزاء هذا الكون، بعيداً عن العقيدة والأديان)، فسنجد مستويات مختلفة وأنواع شتى من (النظم) - بالمفهوم العامي البسيط للنظم - الذي لا يمكن الشك بتاتاً أنه متولد من معمل الكون وتفاعلاته المستمرة، التي لم يثبت لهؤلاء الماديين فيها تدخل الخالق سبحانه - وفق مرتكزاتهم طبعاً، التي لا ترتكز أبداً على الدليل الديني والسماوي -. فالحديد يصدأ باستمرار وتتكون مركبات أكاسيد الحديد، وينتظم الكربون في باطن الأرض ليكون (الماس) ذو التركيب البلوري ذو الثمانية أوجه، وتحدث تفاعلات ذرية في الشمس تشكل عناصر لها نظام ذري محدد غير بسيط ... وهكذا.

والحياة لا تتوقف بلا شك عند هذا الحد. فالتفاعل الأول سيتلوه تفاعلٌ ثانٍ ثم ثالثٍ فرابعٍ ... الخ. وهذا بلا شك مما يمكن أن يولد أشكالاً معقدة من النظم وفق الواقع ووفق برهان حساب الاحتمالات آنف الذكر - والذي هو في الأساس، محور حديثنا هنا -. فالقضية تراكمية وفي تطور مستمر، وكل مركب من المركبات الموجودة في الحياة، مؤهل بلا شك لأن يكبر - بحيث يعتد جميع البشر بحالة النظم فيه، دون جدال -، أو يصغر - فيراه بعضنا خالياً من النظم، وهو خلاف ذلك -، وفي كل الأحوال فالنظم موجود في الجميع، لكن الإشكالية هنا في انتقائية البشر الخاطئة، وفي تصنيفهم غير الدقيق.

 ثم إن خصائص تلك المركبات، تتغير أيضاً طبعاً تبعاً لذلك التغير. ومن ذلك بحسب الماديين - الذين يوجب علينا العقل والمنطق الاستماع لهم، لفهم تصوراتهم بدقة، ومن ثم الانتفاع بالجيد من أفكارهم، ورفض الرديء منها - خصائص تلك الحياة المشهودة، وتمظهرات العقل فيها. وهنا عند هذه النقطة، نقطة التقاء (الحياة والموت) في حدودهما الفاصلة، سنجد البشر عموماً والعلماء خصوصاً، واقعين واقعاً في النهاية في مأزق، يدل على الحيرة وعدم الفهم: فأين يمكن أن يصنفوا في نهاية المطاف، بعض تلك المركبات المعقدة كـسلاسل (الفيروسات) القريبة من الحياة؟! فهل يضعونها مع الكائنات الجامدة الخالية من الحياة، رغم قدرتها على التكاثر داخل أجسام الكائنات الحية؟!!! أم يضعونها مع الأحياء، رغم قربها الكبير من المركبات الجامدة الفاقدة للحياة وشروطها ؟!!!.

لقد وجد العلماء أشكالاً من (المركبات العضوية المعقدة) في هذا الكون، تنقض تصوراتنا البسيطة (للنظم) الناتج من تفاعلات الكون. فبعضها في المذنبات التي تسقط على الأرض، وبعضها في أعماق الفضاء بين النجوم ... الخ. ويمكن أن يجد القارئ العزيز بعض تلك المركبات، مذكوراً في المصادر العلمية المعتبرة (1). ومنها هنا على سبيل المثال لا الحصر: (Ethyl formate) و(n-Propyl cyanide). كما يعتقد العلماء، بناءً على دراساتهم العلمية للفضاء، باحتمالية وجود مركبات عضوية أخرى أكثر تعقيداً في الفضاء، كالأحماض الأمينية الأساسية للحياة - التي هي صور لتتابعات من القواعد النيتروجينية (الأصغر)، يتم منها بناء البروتينات (الأكبر) - (راجع المصدر السابق نفسه).

وهنا، في خضم هذا البحث عن تلك المركبات، فإن قلة تلك المركبات المعقدة وعدم شيوعها، وبالتالي عدم شيوع الحياة في كل أجزاء هذا الكون، يمكن إرجاعه ببساطة وفق الرؤية المادية والعلمية المجردة من الإيمان - والتي لم آتي هنا لأجل الاحتجاج لها تجرداً من الإيمان، لإيماني بالله وفق القواعد التي آمنت بصحتها – لأسباب عديدة منها أن تشكل تلك المركبات المعقدة أقل احتمالية من تشكل المركبات البسيطة ليس إلا، وأن تشكل الحياة وبقاءها له اشتراطات عديدة جداً، تقلص فرص رؤيتها في هذا الفضاء. وهو هنا بناء منطقي صحيح، وهذا هو مقتضى برهان حساب الاحتمالات، فالمحدودية هي النتيجة، وليس النفي التام (الذي يجعل الاحتمال كعدم الاحتمال) - الذي يتوهمه خطأً، بعض المؤمنين بالله سبحانه -.

وهنا، فيمكن للعلماء الماديين وأنصارهم، بناءً على مثل هذه المباني، إنكار وجود الله بناءً على مناقشات برهاني النظم وحساب الاحتمالات غير الحاسمين. لكن بعد تجاوز هذين الدليلين القاصرين، وتأكيداً منا هنا للإيمان بالله، سنسأل: هل يمكن من جهة أخرى للمخلوق الحي، إنكار الحياة؟! وهل يمكن للمخلوق العاقل، إنكار العقل؟! وهل يمكن لصاحب الإرادة، إنكار الإرادة؟! أو حصرها (جميعاً) أو بعضها في نفسه أو في مخلوقات مثله أو أقل أو أضعف منه؟! أليست (جميعاً) ممتدة وغير مقيدة، وهي حقيقةً أوضح من الواضحات نفسها؟!!! أم ماذا؟!!!.

بلا شك: ... "الجواب واضح".

وأتوقع هنا، أن هذا يكفي في نقاش ما ذكره السيد الحيدري - حفظه الله -.

ثانياً، ما ذكره بعض الإخوة، حول مثال الضرب العشوائي على الآلة الكاتبة:

فهذا المثال الشهير والشائع في مثل هذه النقاشات، خير مثالٍ يمكن تطبيق النقض السابق عليه، وهو مرتبط بما ذكر سابقاً بلا شك، وليس بعيداً عما ذكرناه، ونحن سنكرر هنا تطبيق الأدلة السابقة، ليس إلا بغرض زيادة وضوح البرهان، وإضافة إضاءات جديدة. والسؤال هنا، هو: عندما تضع قرداً أو شخصاً مغمض العينين أو شخصاً أمياً ليضرب على الآلة الكاتبة مدة ساعة، فهل سيخرج لك هذا هكذا بقصيدة؟!.

طبعاً هذا غير المتوقع، لأن حساب الاحتمالات يدلنا على ضآلة الفرصة، ولأن الفعل العشوائي يعجز وفق العادة والتجربة البشرية المحدودة واقعاً، عن توليد النظم وفق هذه الشروط،. رغم أن الآلة الكاتبة والضرب على تلك الآلة ليست مما يعجز واقعاً عن توليد القصيدة بحد ذاتها كنتيجة لفعل. وبالتالي، فنحتاج هنا لتدخل العقل، ليختصر الزمن، وليلغي المحاولات السلبية، فيولد النظم في الأحرف المكتوبة، من فرصة فردية واحدة. ولن يتولد ذلك النظم نفسه عادة، من ضرب عشوائي (لنفس المدة المذكورة)، لأن الفرص الأخرى موجودة وقابلة، وهي منافسة. ولو حصل ذلك وجربه البشر - وهو بالتأكيد ليس من المعاجز والمستحيلات -، لكان ذلك مذهلاً. فهو أشبه بفوز فرد في اليانصيب، بمشاركته بورقة يانصيب واحدة، مع مليارات المنافسين، ما سيدفعه حتماً للقفز من مكانه بجنون فرحاً. ففوزه هنا، ليس مستحيلاً ولا معجزة، لكنه شبه مستحيل وغير المتوقع، لا من خلال حساب الاحتمالات، ولا من خلال التجربة البشرية الفردية المعتادة. لأن التجربة، وحساب الاحتمالات، تدل على أن تعويل الفرد على ورقة يا نصيب واحدة، هي مغامرة مجنونة، احتمالاتها جداً ضئيلة، ما لم تتدخل عوامل أخرى (كالغش)، وفي مثال الآلة الكاتبة بطريقة أخرى  - بوضوح - (العقل). مما يعطي لدى البعض غالباً، من خلال التجارب المعتادة، تصورات جازمة خاطئة، بأن العشوائية غير منتجة دائماً.

ولو تقابل هنا جدلاً، الفرد الفائز بورقة يا نصيب واحدة، مع من جرب الخسارة في عدة رهانات بمشاركته بورقة يانصيب مفردة، فالمتوقع هنا هو أن يحصل بينهما خلاف كبير، في نظرة كلٍ منهما لجدوائية الورقة الواحدة، خصوصاً حينما يبنى الجدل بينهما هنا على العاطفة، لا على المنطق والعقل، وهو المتوقع والمألوف في نقاش عوام البشر، حيث تبنى المعرفة على عاطفة والعاطفة على تجارب بشرية ناقصة ومحدودة. وهنا يتضح ما قصدناه بكلامنا عن محدودية التجربة البشرية، وهو كونها تعطي انطباعات خاطئة غير دقيقة وغير منطقية وغير علمية. 

وهنا بعيداً عن التجربة البشرية وطبيعة دورها العاطفي والانفعالي النفسي في تفسير القضايا وتوجيه الأحكام الصادرة من البشر، فيمكننا القول هنا بالعودة للمنطق الرياضي، أنه عند إخراج التجربة العشوائية، من حيز المحدودية غير الواقعية، التي تؤثر سلباً في النتيجة، وتكرارها ألف مرة، ثم تكرارها مليون مرة، ثم تكرارها ترليون مرة، ثم تكرارها بلا حد زمني معلوم، ثم القول أن هذا يستحيل عقلاً أن يولد كلمة ولا عبارة ولا جملة ولا قصيدة ... فهذا نفسه في الحقيقة هو القول المستنكر، وما يتنافى مع العقل والمنطق الصحيح والسليم ضمن حدوده المعروفة المقبولة والمعقولة عند عقلاء البشر. لأن ذلك يقتضي: إما أن تكون النتائج الرياضية المحسوبة، والتي ننتظر نتيجتها العملية في الواقع، كلها نفس النتيجة الأولى دائماً، أو فقط نظيراتها الخاطئة. وهذا التكرار دون تنوع، هو أولاً رياضياً في الحساب الرياضي الذي يلجأ لحساب جميع النتائج المحتملة، هو بلا شك خاطئ. ثم ثانياً، ووفق التجربة البشرية المشاهدة - التي يحتج بها في المنطق العلمي والفهم البشري، وتعتمد دائماً في فهم الحياة وقوانينها رغم قصورها – هو عادة غير مشاهد وهو مستحيل، أو هو أشبه بالمستحيل، فالنتائج مشاهدةً لا تكون نفس النتيجة الأولى مكررة دائماً أو محصورة، بل يحدث فيها تغير وتبدل مستمر، وتظهر فيها عينات متنوعة من النتائج المحسوبة. فالنتيجة الخاطئة يقل حدوثها في التجربة العشوائية، كما يقل حدوث النتيجة الصحيحة المطلوبة دون فرق. والواجب التنبه لذلك. وهنا (بعد هذه المحاصرة المنطقية الرياضية والتجريبية للإدعاء)، فما هو إذاً هنا مبرر حصر كل النتائج العشوائية في نتائج خاطئة غير صحيحة، واستثناء الصحيح منها، الذي تدل عليه الحسابات العلمية والرياضية؟!!! فهل العشوائية، تدخل عامل (تعمد الخطأ) هنا، كعامل تأثير غير محايد، فتختار الخيارات الخطأ، في كل مرة، وتقتضي تلك الخيارات، وتتجنب الصواب دائماً؟!!!.

إذا كانت كذلك، فهي إذاً (عشوائية عاقلة)، لكون عاقل ومادة عاقلة، تعرف ما تختار. وهذا نقض واضح، للهدف من سوق برهاني النظم وحساب الاحتمالات في الاستدلال هنا، أو من قبل الفلاسفة الإلهيين ومن لف لفهم في مواضيع النقاش. والذين يراد منهما دائماً من قبل المؤمنين، إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بطرق حتمية ناجزة كاملة سطحية وبسيطة، تقدم للعباد من بني البشر، خصوصاً العوام منهم، للتعامل مع ما آتاهم الله من حكمة وعقل ومنطق نسبي وبساطة في التفكير، لإقناعهم بأن المادة محدثة مخلوقة عاجزة فاقدة للعقل والحكمة والإرادة و(لكل شيء)، ومحصورة في ظل عجزها الدائم بعشوائيتها العمياء - غير المنتجة كما يتصور -، عن أن تحدث أي صورة من صور الاتزان والنظم، حتى ما هو هبة ثابتة من الله لها.

ثالثاً، تكلم أحد الإخوة، وهو الأخ (أحمد)، عن حساب الاحتمالات، وربطه بنظرية داروين في التطور والنشوء(2):

وفي الحقيقة أؤكد هنا - كي لا يحدث أي لبس -، أنه منذ البدء، لم تكن نظرية داروين محل حديثنا ونقاشنا. وكل ما في الأمر هو أننا، كنا نتكلم عن برهان حساب الاحتمالات، وعدم صحة الاستدلال به - كما أوضحت سابقاً -. أما بقية نظرية التطور والنشوء وتطور الإنسان من أحياء أخرى غير البشر (كالقردة مثلاً)، فهي وإن كانت امتداد طبيعي للفكرة - المبنية على التطور والنشوء، التي يدعمها بلا شك بطريقة ما برهان حساب الاحتمالات -، لكنها ليست من ضرورات صحة نقاشنا ورؤيتنا في برهان حساب الاحتمالات. ومع ذلك، فقد ذكر هذا الأخ بعض الأفكار الخاطئة في الموضوع، والتي تثير الاهتمام، فأحببت هنا التوقف عند ما ذكره أخونا العزيز، لنقاش ما قاله، من باب الفائدة.
 
يتكلم الكثيرون اليوم في بلادنا، عن نقض نظرية داروين، مع أنها في الحقيقة لم تنقض، وما نقض علمياً منها، هو تطور البشر من قردة فقط - كما أعلم -، وهو ما لم تدعمه الأحافير. وهذا لا يعني أن نظرية التطور والنشوء قد نقضت برمتها، فنقض الجزء هنا، لا يولد نقض الكل. والنظريات العلمية ليست مما لا يتطور. وما يهمني هنا من نظرية داروين، ليس تطور البشر من قردة، لأنني لا أؤمن بذلك بتاتاً، ولم أقل به أبداً. إن المهم عندي هو الجانب الصحيح من النظرية، الذي لا يمكن إنكاره ولازال العلم يثبته يوماً بعد يوم، وهو تطور الحيوانات والنباتات وبقية الكائنات الحية عبر سلالاتها المختلفة. فكل الكائنات تتطور وتتبدل باستمرار. وأدلة ذلك موجودة بكثرة في الحياة وفي الأحافير المختلفة، التي يكتشفها الإنسان. فمنها تطورات جيدة تستمر، ومنها تطورات مرضية مضرة، تندثر مع موت الكائنات الحية، ومع عدم قدرتها على التكاثر والاستمرار.

إن الطفرات الوراثية والتشوهات التي تشاهد باستمرار في هذه الحياة في أعمارنا القصيرة (وهي تجربة بشرية محدودة)، إنما هي دليل واضح للعيان على فرص ذلك التبدل في البنية الكيميائية لجينات الإنسان وبقية المخلوقات الحية. وبالتالي، فهي دليل على التطور المستمر في كل المخلوقات، وإمكانيات ذلك. فالقضية ليست قضية تشوهات فقط تؤدي لنفوق الكائنات الحية ونهايتها، بل القضية أكبر من ذلك بكثير وأعم. فهي تشمل طفرات إيجابية وأخرى سلبية وتغيرات مستمرة في الجينات، وبالتالي في صفات الأحياء. وهنا، فالصفات الإيجابية، تضاعف من قدرات الكائن الحي على البقاء والتنافس ومقاومة عوامل الموت والفناء، وتدفعه للبقاء وتزيد من قدراته على التكاثر، أما السلبية(3)، فتفعل العكس. فيكون التطور هكذا دائماً، مرسوماً في الاتجاهات الإيجابية، لا السلبية.

إن هذه التطورات السلبية والإيجابية تحدث بلا شك طبعاً بإرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته. وذلك بعد من أبعاد روعة هذه الحياة وعظمتها، يضاف لروعة الخالق وعظمته، وليس العكس. وهو - في نظري - ليس بالواقع السلبي المناقض للخلق الحكيم والتدبير المحكم، وإن كان في الظاهر دليلاً عند البعض - الماديين والملحدين - على هيمنة المادة وانتفاء الحاجة لوجود الخالق والمبدع سبحانه وتعالى، لأنه آلية عظيمة مليئة بالإبهار، وفق ما يدركه الفكر البشري.

أما بقية الكلام الذي ذكره هذا الأخ الكريم، واستدل من خلاله على اتجاه الأشياء جميعها والمخلوقات للفناء، فيفنده الكلام السابق الدال على التطور والترقي في الكائنات، الدال على البناء لا الهدم. ولا أرى هنا، أي سند لكلام أخينا العزيز، من خلال الديناميكا الحرارية، التي لم أفهم من دراستها ما فهمه أو قرأه هو، ولا ما ربطه هو وغيره بآيات من كتاب الله الكريم. بل إن القول بفوضى جزء من الكون، هو بحد ذاته مسار يقود لإنكار وجود الله سبحانه، عند المستدلين بالنظم كدليل على الخلق، كما أسلفنا.

رابعاً، حساب الاحتمالات بنقض الأخ العزيز برير السيهاتي:

يقول أخي العزيز برير: "قولك أن زمان وحجم الكون لا متناهيين غير صائب، بل هو محدود جداً بالنسبة إلى عدد المحاولات المطلوبة ... بعض الأحداث التي أدت إلى نشأة الكون بحاجة إلى 1 أمامه مائة صفر من السنوات"، وهنا ورد نفي بلا دليل، و إثبات بلا دليل أيضاً، وخروج عن محور البحث في جوهره!!!.

والمفروض هنا بعد الدقة في الإمساك بصلب الموضوع، هو أن يكون لنا دليل ننطلق منه (بتلك الحقيقة المفترضة) للنقاش. فإذا كان (الكون محدوداً، والزمان محدوداً) وفق الفرض واحتجاج أخينا الكريم برير، وهو خلاف المدرك والمشاهد، فيجب عليه إذاً إيراد الدليل هنا، كي تكون الحجة وتتضح الصورة. فأين هو ذلك الدليل هنا - وهذه بالتأكيد، ليست من البديهيات العقلية، ولا من مسلمات البشر -؟!!!. وإذا كانت نشأة الكون (وهي خارج قدرات التفكير البشرية، والنقاش هنا في موضوعنا من جهة أخرى بلا شك، إنما هو حول نشأة مركبات الحياة ببرهان حساب الاحتمالات ليس إلا، وليس حول نشأة الكون كله) بحاجة لذلك العدد من السنوات، فأين الإثبات؟!!!. وعلى أي أساس تم هذا الإدعاء، خصوصاً إذا كان المطلوب هنا، هو أن نطبق الحديث عن الكون، على حديثنا عن الجينات؟!!!.

في الحقيقة، في ظل هذا الرقم القائل بأن الاحتمال هو (واحدواحد أمامه مائة صفر) سنقول في ظل (عدم محدودية الزمان والمكان التي نتحدث عنها بخصوص الجينات) يصبح الاحتمال (ما لانهايةواحد أمامه مائة صفر) ... فإذا كان الاحتمال في الأولى أشبه بالمستحيل، فهو في الثانية حتمي تماماً، والمعروف أن الزمان والمكان بلا حدود حتى اليوم ... وسأكون شاكراً لكل من سيثبت لي محدودية الزمان أو المكان، التي أعجزت ولازالت تعجز، عقول البشر جميعاً عن إثباتها.

وقد نقضها الأستاذ المحترم برير نفسه، بقوله بوجود (أحداث سابقة) على (حدوث الكون نفسه) مغرقة في الكثرة. وذلك حين قال: "بعض الأحداث التي أدت إلى نشأة الكون بحاجة إلى 1 أمامه مائة صفر من السنوات". فهذا نقض واضح للمحدودية تلك ... فتدبر.

* خاتمة:
من خلال كل ما تقدم، يثبت لنا أن ما قلناه حول بطلان (جزئية الاستدلال ببرهان حساب الاحتمالات) كان كلاماً منطقياً صحيحاً، وأن الاحتجاج ببرهان النظم لم يعالج الإشكال، فلم تكن المعالجات والإشكالات الواردة في التعليقات جميعاً على المقال السابق صحيحة، كما أوضحنا.

وتبقى هنا أهمية الاستدلال على وجود الخالق سبحانه بطرق أخرى بديلة صحيحة تسد النقص الحاصل إن وجد. وقد ذكرت بعضها مما أعتد به فيما سبق. وسأضيف هنا قناعتي العقلية بأهمية تقوية الأدلة العقلية البشرية الضعيفة بعضها للبعض الآخر. فكلها حتى الضعيف منها، إذا ضم إلى البعض الآخر، فهو منتج ومفيد في تغليب الإثبات على وجه من الوجوه، خصوصاً في حياتنا البشرية التي لا تعرف الأدلة الكاملة الخالية من النقص والعيب والمحدودية والنسبية، حتى في الحياة العلمية. فالقاعدة الأعم والأهم في الحياة البشرية، هي دائماً في المناهج العلمية والدينية وغيرها، إنما هي بناء الثقة أو (غلبة الظن) ليس إلا، وذلك عبر التجربة المكررة والحسية ... أو غيرها (4). وهذا بلا شك خلاف الحديث عن اليقين واليقينيات.

وهنا، في ضوء هذا القصور والنقص البشري، فإن الأدلة المختلفة، ليست سوى خطاب موجه للإنسان فقط، على قدره هو. ولذا، فهي ناقصة دائماً وليست تامة. لأنه هو كذلك ناقص ومحدود في قدراته وفكره، وغير قابل للإحاطة التامة بما هو أعلى منه وأعظم من فكره، حيث يستحيل عليه، أن يشمل جميع زوايا الكون بفكره، وكذا بنظره.

ولذا، فلا حل إلا بالتواضع العقلي، ولا حل إلا بإلزام الناس للناس بحدود عقولهم، ولا حل إلا بأن تأخذ الإنسانية، وبأن يأخذ الإنسان، من الأدلة ما يناسب تفكيره ومستوى قدرات عقله، وأن يجتهد كل فردٍ منا في النهاية، في البحث عن أخطائه وعجزه.

والناس في الختام، بلا شك معذورون عند خالقهم سبحانه وتعالى على قصورهم هذا، وعلى هذا التحاكم الناقص لعقولهم وقدراتهم البشرية الناقصة والقاصرة، وعلى اعتمادهم على تلك الأدلة المحدودة العاجزة التي يستخلصونها، ومنها برهان النظم (الانتقائي) الناقص.

ولهذا العجز والفقر الواضح والمنطق النسبي، فلا يصح أن يكون غرضنا من الاستدلال هنا في نقاشنا هذا، ولا في أي نقاش آخر - كما أسلفنا -، هو أن يفرض بعضنا رؤيته وقناعاته وفكره على البعض الآخر، كنتيجة للنقاشات. ولا أن نصل بعد نقاشاتنا دائماً لنتيجة نهائية حاسمة، نفرضها على الآخرين بالقوة، ولا أن نختم نقاشاتنا دائماً بأن نصل لطريق مغلقة مسدودة ... تسد على الجميع آفاق حرية وتحرر وانطلاقة الأفكار وتنوعها ... إنما هو كما يجب (تعليمٌ فقط، وتبادل رؤى) ... وحوار إيجابي بالتي هي أحسن فقط ... يمكنه أن ينتج القناعات والرؤى المثمرة والمنتجة ... والتنوع البشري في النهاية مستمر بلا شك إلى ما لا نهاية لديمومة التفاعل والاستمرار ... والسلام.


(1) ScienceDaily – "Two Highly Complex Organic Molecules Detected In Space":
http://www.sciencedaily.com/releases/2009/04/090421080506.htm
(2) يوتيوب - تبسيط نظرية داروين:
http://www.youtube.com/watch?v=EYPT1st1ygU
(3) يوتيوب - دليل على حقيقة التطور في الكائنات الحية:
http://www.youtube.com/watch?v=cDuw9Os5-Ug
(4) وهذا سيحتاج منا لمقال آخر للحديث حوله.