كيف أقضي وقتي؟؟

 

لن أتحدث في هذا المقال عن حفظ الوقت والحرص على استثماره فقد تحدثت عن ذلك في مقال سابق بعنوان "من سيربح الدقيقة؟"، ولكن أريد أن أتحدث عن سؤال نكرره دائما حين نمل من تضييع الوقت بلا طائل عندما يكون لدينا فائض كبير من أوقات الفراغ وخصوصا في أوقات الإجازات والعطلات الطويلة.

تختلف الأسباب الداعية لطرح هذا السؤال من الحرص على الوقت وتأنيب الضمير، إلى الملل الشديد الذي تسببه اللاهدفية وفقدان الشعور بمعنى وطعم الحياة عندما لا ننجز شيئا يذكر - وهذا شعور نفسي يشعر به جميع البشر سواء المجد منهم أو الكسول-.

نقف في هذه الحالات أمام سؤال محير يشغل أذهاننا ويحركنا لإيجاد إجابة له تخرجنا من حالة الضجر إلى حياة لها طعم حتى ينتهي وقت الفراغ وتعود الحياة إلى مسارها المعتاد.

هذا السؤال هو: كيف أقضي وقتي؟ أريد شيئا أشغل وقتي به لأطرد الملل من حياتي. ليس طلاب المدارس والجامعات هم فقط من يطرح هذا السؤال خلال العطلات -وإن كانوا هم أكثر من يطرحه- وإنما الجميع يطرحه أيضاً لارتباط حياة الجميع بحياة الطلاب في مجتمعاتنا الشرق أوسطية التي تقارب نسبة الشباب فيها الستين في المئة.

لا أريد هنا أن أخبرك "ماذا" تصنع في وقت فراغك، ولكن أريد أن أقترح نقاطا قد تجدها مفيدة لتعرف "كيف" تقرر ماذا تفعل عندما يؤرقك هذا السؤال ولا تجد له جواباً.

أولا: أكثر الناس لا يعرفون أنفسهم جيدًا ولا يعرفون ماذا يريدون في هذه الحياة، بل ويموت الكثير منهم وهم لا يعرفون ذلك، والأسوأ هو أن البعض يموت وهو لا يعرف أنه لا يعرف ماذا يريد. للأسف فإن الأنظمة التعليمية لا تساعد الطالب أحيانا كثيرة على اكتشاف نفسه وطموحاته الحقيقية، وتتجلى هذه القضية عندما نراه حائرا لا يعرف كيف يقضي وقته أيام العطلات التي طالما حلم بها طويلاً ليفعل كل ما يحلو له، ولكنه لا يجد شيئا ليعمله فيها عندما تأتي!!

 عندما تطرح على نفسك هذا السؤال: ماذا أريد أن أفعل؟ فهذا يعني أنك بدأت تخرج من هذا النفق وهذه أولى بشائر النور. هذا السؤال يجب أن يكون خطوة البداية، فلا تدعه يفلت منك..أمسك قلمك وابدأ بكتابة كل ما يرد على بالك من أمور تحب أن تقوم بها "هواياتك".. فكر في كل ما تريد أن تفعله، وتذكر كل ما أردت فعله في الماضي ولم يسمح لك الوقت أو الظروف بفعله..فكر في "أمنياتك" وما تتطلع لأن تكون عليه في المستقبل"طموحاتك"، وماذا تستطيع فعله الآن لتصل إلى هذه الأمور مستقبلا. دوّن كل هذه الأفكار ثم انظر إلى الورقة من جديد. أكاد أجزم أنك لم تكن تتوقع أن تخرج بهذه القائمة عندما ابتدأت الكتابة. حدد أولوياتك منها، ثم خطط لفعل أحد هذه الأمور في كل مرة تشعر فيها بأنه يوجد لديك متسع من الوقت لذلك.

ثانيا: قد تقول: لا توجد لدي هوايات ولا أمنيات. هذا لأنك لم تعرف نفسك بعد. إذا لم تكن لديك، فأوجدها الآن. أنت لست آلة لا عقل لها ولا مشاعر، أنت إنسان مليء بالطاقات والأماني والمشاعر. حتى القطعة الصغيرة من الحديد أو الخشب لها تأثير في هذه الحياة، فكيف بك وأنت الإنسان الذي سخر الله لك هذا الكون بما فيه، تأتي لهذه الدنيا وترحل عنها وكأن شيئا لم يكن؟!

ثالثا :احرص على أن تخصص وقتا كافيا لاكتشاف "مواهبك" وتطوير "قدراتك" لأنك إن لم تعتن بها جيدا تخسرها، وكلما مضى الزمن تخسر مزيدًا من فرص الاستفادة من هذه المواهب والقدرات.

 هنا لا بد أن تعرف الفرق بين المواهب والقدرات، فالمواهب هي الأمور التي وهبك الله إياها دون أن تبذل جهداً في اكتسابها، وبذلك تكون لديك فرص أكبر من الآخرين -الذين يحتاجون لبذل الجهد للوصول لنفس مستواك فيها وقد لا يصلون أيضا- على النجاح فيما يتعلق بهذه المواهب، فقوة السمع عند بعض الناس تساعدهم في النجاح في المجالات المتعلقة بهذه الحاسة كالتسجيلات الصوتية مثلا. أما القدرات فهي ما لديك القدرة والإمكانية على القيام به إن بذلت الجهد المطلوب -حتى إن كنت لا تتقنه حاليا-، فمثلا قد تكون لديك القدرة على ممارسة الكثير الألعاب الرياضية وإن كنت لا تمارسها حاليا كالسباحة مثلا، وقد تكون لديك القدرة على الكتابة وهكذا.

كلما بكّر الإنسان في اكتشاف كل من مواهبه وقدراته كان ذلك أقرب إلى استغلالها في صناعة حاضر ممتع و مستقبل متميز، وكان أقرب إلى حفظ هذه المواهب والقدرات من الضمور والضياع.

تذكر جيدًا أن هذه النعم لا تدوم للأبد إذا أهملتها على أمل الاهتمام بها وبتطويرها مستقبلاً، ففرص اكتشافها تضعف يوما بعد يوم وتتلاشى شيئا فشيئا إذا لم تتنبه لها مبكرًا. قد يقول قائل: لم أعتنِ بقدراتي ومواهبي منذ الصغر والآن فقدت منها الكثير. إذاً فابدأ بالاهتمام بها من الآن، لئلا تفقد المزيد منها إذا كنت آيساً من استرداد ما مضى.

كثير من الناس لا يستوعبون حجم قدراتهم جيدا ويستهينون بما يستطيعون فعله وربما يضحكون على أنفسهم عندما يخطر على بالهم أن لديهم القدرة على القيام بشيء كبير، فيكون هذا الشعور هو السبب الأول لفشلهم في القيام به والخنجر القاتل لإرادتهم، وربما كتب لهم النجاح فيه بطريقة لا يتوقعها أحد لو وثقوا من أنفسهم فقط. لا تكن من هؤلاء، واعرف قدر نفسك.

رابعا: مشكلة غالبية البشر أنهم لا يربطون بين قدراتهم المختلفة وبذلك لا يتمكنون من مزاوجتها واستكشاف المزيد من الطاقات الدفينة فيهم. فمثلا، يغفل معظم الناس عن ربط أنواع قدراتهم الثلاث: العقلية والبدنية والنفسية ببعضها البعض، ولو فعلوا ذلك لتمكنوا من تقويتها وزيادتها أضعافًا مضاعفة. فلا تغفل عن هذه النقطة الجوهرية.

خامسا: إن كنت لا تجد الوقت كافيا للاهتمام بهواياتك ومواهبك وقدراتك ومهاراتك، لأن رعاية مثل هذه الأمور تحتاج إلى وقت طويل وإلى استمرار أيضا لكيلا تفقد ما اكتسبته بسبب الانقطاع، أو لأن وقت فراغك محدود بفترة زمنية كالعطلة مثلا ثم لا يمكنك التفرغ لمواصلة الاهتمام بهذه الأمور بعدها، فعليك بالقاعدة الجميلة والحكيمة: "قليل يدوم خير من كثير منقطع[1]" فهي تراعي عدم قدرة الكثيرين على بذل الجهد الكبير والمتواصل، كما تراعي أيضاً عامل الاستمرارية التي تربي الإنسان وتطوره بالتدريج مع مرور الأيام فلا ينقطع سيره المتواصل نحو النجاح والتكامل بسبب بعض الظروف الضاغطة والمعوقة.

وأخيرًا: لا تحصر هذا السؤال والإجابة عليه بأيام العطلات فقط، بل اجعله قاعدة ثابتة في حياتك كلها، فلا تتوقف عند الاهتمام بهذه الأمور عند نهاية أيام العطلة وتوصد الأبواب حتى العطلة القادمة، لأنك بذلك تضيع الكثير من الفرص والمتعة وربما تتأخر سنين عدة حتى تعوض ما ضاع منك –إن استطعت التعويض أصلا ولم يفت الأوان-. لا تستثقل عمل ذلك واكتف ولو بالقليل منه ولكن ليكن متواصلا لتحفظ مسيرة التطوير الدائم في حياتك.

 

1- من حكم أمير المؤمنين كما ورد في كتاب (عيون الحكم والمواعظ) تأليف الشيخ كافي الدين أبي الحسن علي بن محمد الليثي الواسطي ، ص370