في مسؤولية المعلم ذو النزعة الإنسانية

 

 

 

مهما طال الزمن، فإن أسلوب العلاقة البنكي بين بني البشر، والقائم على أساس الاستعلاء والتجبر والتسلط، سوف ينكشف عاجلا أو آجلا، فالواقع المعاش هو دائما في عملية متحركة، وحركية مستمرة لا تهدأ ولا تستقر على حال، حيث نشهد ونشاهد تحولات متتالية ومتصلة في جميع مجالات الحياة وشؤونها، وهو الأمر الذي يجعل الإنسان المراقب لهذه التحولات، والمتصل أو المتواصل معها، يحس ويشعر مع مرور الزمن بخواء ورداءة التعليم الذي تحصّل عليه، وعندئذ يدرك أن ما تعلمه لم يستهدف شيئا سوى شغله عن وعي فهم هذه الحياة على حقيقتها. 

لذلك يدعو باولو فرايري، في كتاب تعليم المقهورين، المعلم الإنساني، صاحب النزعة الإنسانية، والذي يحمل على عاتقه رسالة التنوير، أن لا يمارس ويستخدم أسلوب التعليم البنكي أثناء نضاله من أجل الحرية، بل على العكس من ذلك، يجب أن يساهم في تعميم قيم التفكير النقدي، الذي يحقق للتلاميذ إنسانيتهم. فهذا المعلم، كما يقول باولو يثق ثقة عظيمة بطلابه، وفي قدرتهم على الإبداع،  لذلك فلا تجده يقوم بدور المتسلط، بل يقوم بدور المشارك لتلاميذه في التعلم والحوار والتفكير.

إن اولائك الذين يعملون ويستهدفون تحرير الإنسان حقا، لا يمكنهم قبول المنهج الآلي في التعليم، الذي يحوِّل الإنسان إلى مجرد إناء يتوجب ملؤه، أو عقل فارغ مفتوح لِتلقي ما يودع فيه، بل هم يستعيضون عن هذا الاسلوب البنكي في التعليم بمفهوم آخر يعترف بإحساس الإنسان تجاه العالم الذي يعيش فيه، ويبدِّلون أسلوب التعليم وطريقته من وسيلة للإيداع والتخزين، إلى وسيلة لتسليط الأضواء على مشاكل الإنسان مع هذا العالم الذي يعيش فيه، لذلك فالتعليم الذي يتناول قضايا الإنسان الفعلية يرفض أسلوب البيانات والتلقين، ويستعيض عنه بإسلوب الحوار.

إن دور المعلم في نظام التعليم البنكي يقتصر على صب المعرفة داخل عقل التلميذ من أجل ملئه بمودعات يعتقد أنها تمثل المعرفة الحقيقية، وهذا النوع من التعليم، كما يعتقد باولو، يزيد في سلبيتهم، ويجعلهم أكثر تأقلما مع الواقع الذي يعيشون فيه، فالإنسان المتعلم، حسب هذا المفهوم، أكثر صلاحا من غيره لملائمة مجتمع القهر، ويتناسب جداً مع أهداف القاهرين الذين تتركز اهتماماتهم في ضرورة تأقلم الناس مع العالم الذي صنعوه، والذي لا يعرفون له بديلا، فبقدر ما تتأقلم الأغلبية مع الأغراض التي حددتها لهم الاقلية المسيطرة، بقدر ما تكون الأقلية قادرة على الاستمرار في لعب دورها المرسوم.

وهكذا فإن النظرية وتطبيقاتها في مفهوم التعليم البنكي، كما يشرح باولو، تخدم هذه الغاية بكفاءة تامة، فالدروس القولية، والقراءة المطلوبة، وطرق تحصيل المعرفة، والمسافة بين التعليم والمتعلم، وأسس ترقية الطلاب، وكل التفصيلات الجاهزة، تخدم هدفا واحداً، هو تحييد قدرة الطلاب على التفكير. 

كما يلفت باولو انتباه الأشخاص، ذوي النزعات الإنسانية الحقة، إلى استحالة استخدامهم لأسلوب التعليم البنكي في نضالهم من أجل الحرية، فالتعليم البنكي هو تعليم استغلالي، لا يستهدف شيئا سوى تطويع الطلاب بدافع فكري مرسوم، كي يتأقلموا مع عالم القهر، وهو الأمر الذي يناقض هدف الحرية، التي يسعى من أجله هؤلاء الأشخاص، حين نجدهم يستخدمون نفس الوسيلة التي يستهدفون محاربتها، إذ لا يمكن قبول مفهوم التعليم البنكي والتعايش معه بإسم الحرية.

إنه لمن المهم، في خضم ما تعيشه مجتمعاتنا العربية اليوم من تحولات وأحداث وتطورات صاخبة، تذكير هؤلاء الأشخاص، من ذوي النزعة الإنسانية، الذين يستهدفون تغيير الواقع المعاش، وتحرير الإنسان من واقع القهر والاستلاب، والملتزمين بقضية التغيير، والملتحقين بمسيرتها، بأهمية نقد الواقع القهري الذي يعيشه الإنسان، وتعميم قيم التفكير النقدي وممارسته، فمفكرو الأمة يقع على عاتقهم مسؤليتان مهمتان في ظل هذه الأوضاع التي تمر بها الأمة اليوم، حسب رأي علي محمد فخرو:

الأولى: تتمثل في التعامل مع البيئة المجتمعية العربية تعاملاً يساهم بشكل فوري وعميق في تغييرها لتكون صالحة لاحتضان الثورات وتغذيتها.

حيث هناك حاجة لوجود تيار عريض من المفكرين القادرين، بشجاعة وبتضحيات وبتركيز شديد وبتناغم مع بعضهم البعض، على تحليل ونقد وتجاوز كل عوامل التخلف المجتمعي، من طائفية وقبلية وعشائرية، وممارسة لشتَّى أشكال التعصُّب والانغلاق، والعيش في عوالم الأساطير اللاعقلانية، والالتصاق بالجامد المضرّ من التراث، والشعور بالهوان والنَّقص تجاه الآخر، والخوف من العصر والهرب من متطلباته، والقائمة طويلة كونتها عصور الانحطاط والنوم الحضاري.

أما المسئولية الثانية فتتمثل في بناء منظومة من قيم وممارسات جديدة. مثلاً هناك فقه فقهاء السلاطين الذي روّج للصبر على الاستبداد وزيَّن الطاعة العمياء لولي الأمر. إنه بحاجة لأن يُنتقد بشدَّة وتجتث أصوله الفكرية وقراءاته الخاطئة لدين الإسلام، رسالة الحق والقسط والميزان، ليحلَّ مكانه فقه الحرية والكرامة الإنسانية ومحاسبة الظالمين والوقوف في وجه كل أنواع القهر والاستبداد.

ويضيف فخرو قيماً آخرى بحاجة الى النقد الشديد، مثل قيم العلاقات الأبوية المشخصنة بين الحاكم والمحكوم في الحياة السياسية العربية، والعلاقات الأبوية البطركية الفحولية المستبدة بين الرجل والمرأة في محيط العائلة، وبين التلميذ وأستاذه في المدرسة، وبين الشيخ الفقيه وأتباعه في المسجد، وبين الزعيم وأعضاء الحزب في مؤسسات المجتمع المدني السياسية. إنها قيم مدمّرة لعافية أي ثورة كفيلة بأن تحيل نيران الثورات مع مرور الوقت إلى رماد بارد.