تأملات في مسند الرمل

أخيراً وبعد اللتيا والتي قرر الشاعر محمد الماجد أن يطلق طيور إبداعه المغردة إلى فضاء الحرية (النشر) بعد أن ظلت حبيسة الأدراج لردح من الزمن وأن يبوح بفلسفته الصوفية غير عابىء بمن سيصبى على وقع ترانيم عشقه ولغته الشهية ربما يُجبُ الحب هذه المرة إثم صبابة الوجد في قلوب من لم يؤمن بعد ولو لمرة واحدة بفتنة الشعر ومس الإبداع وهواجس واشتغالات المسكونين بنبض وعنفوان الحياة.

لأول مرة يقرر الشاعر إطلاق أول مسند في التاريخ بدون عنعنة إذ كل شيء يصلح أن يكون راوياً ووحياً بلا واسطة لكاتب لا شريك له وعلى خلاف العادة قرر أن يخالف السلف ويجتهد متسلحاً بفلسفة الحداثة ومنطق التجديد ليخط مسنده على الرمل إيماناً منه بأن من يكتب بإزميل الحروف الغائرة يود أن يطبع حروفاً صخورية لا تعرف الرقة لتجبر الأجيال على الاحتفاظ بها بدافع الحب فتبتلى بتقديسها دون أن تمتلك الجرأة على ممارسة ثقافة النقد والتجديد والإبداع بينما الكتابة على الرمل تحمل مداليل جمالية تطال أصل مفهوم التجديد المستمر باستمرار الحياة فالكل يستطيع أن يكتب ما يشاء ويمحو ما يشاء أنها عفوية الطفولة في تشكيل الرمل بماء الاحلام الكبيرة المعشعشة في ثنايا روح المجددين.

فلسفة الكتابة على الرمل

إنها فلسفة الكتابة على الرمل دون الاكتراث بعواصف التغيير لان الكاتب على ثقة بأن شيطان الكتابة كفيل بإعطاء المناعة ضد فيروس الركود لدى الأجيال كل الاجيال وهكذا يصبح للإبداع ألف أب وألف أبن ويكون بمقدور الكلمة التموج والذهاب أبعد من آذان القلوب وخلجات النفوس.. كم نحن بحاجة لمسند بلا عنعنة إنه وحي الفطرة الخلاقة الذي لا يحتاج لواسطة ولا حجاب ولا حتى حُجاب إنها الحرية ملح الفقراء المؤتمنة على مدائن الابداع.

«مسند الرمل» للشاعر محمد الماجد

طقوس للأنوثة

يقول الشاعر الماجدمسند الرمل

أصنعي مني شمعدانات وجرار وأقداح وصحون فرح
الشمعدانات لأباهل بها رواشن العتمة وخواء الغبار
الجرارُ لأباهل بها نزقي وشهوتي للكسر
أما الأقداح والصحون لإحراز الثلث من تركة الريح
هكذا أكون في كامل هندامي
إليك طقوسي

(2)

بسلات من التين تزود
ودَعِ الحبل على الغارب للذة
كي تشعل أوجاع المدارات
ودعني كلما أمت إناثُ الريح أغصاني
عقبت بتيجان خزامى
أو تنفلت بأغسال الرياحين
وأرخيت لها الهودج

لغة الشاعر تنبجس من بين أناملها أحاسيس مضمخة بتاريخ متقد له القدرة على إستثارة الموروث وتوظيفه لصالح فلسفة الفن الشاعري دون الإخلال بمستوى التراكيب اللفظية ، إنها العفوية ، إنها السليقة المرتبطة بالتداعيات الكامنة في دهاليز الروح ، بوحاً يجدد الشاعر طوالعه كلما ألهبت نفحات الذكرى ونسائمها الغضة ، لغةً شُهدية كلما ألح المعنى تبرعمت الكلمات متربعة على عرش ربيع الجمال ، وهنا لا يسع السامع إلا الرقص على أوتارها دونما شعور

دع الحبل على الغارب للذة
كي تشعل أوجاع المدارات

الريح في لغة الشاعر أنثى تأمها الاغصان تتنفل قداسة تماماً كالمصلي الهائم في صوفيته وهنا الشاعر يرخي لها الهوادج استعداداً للرحيل يفترش لها بساط الملوك الاحمر.. الذي لا يقل هيبة عن بساط سليمان في غدوه ورواحه

حين تحكم بلقيس الرجال

بالعراقي يقولون يقرأ الممحي
وبالمصري يقولون يقرأ المستخبي

أما في مسند الرمل فإن تحرير الرجل يبدأ في قراءة المستخبي والممحي على يد بلقيس

فحين يتحرر الرجل الروح من الطين.. من أصله يذكره الماجد بمجد اختام الوصايا وبما انطوت عليه نفسه اللوامة يقول الشاعر:

لو ذوبوني يا إناث الريح في محو غضاراتك
خطوني مع الريح على جرة فخار
وزموني بأعناق الصبايا غرب نيسان
لكنت الآن في حل من الطين
وما جئتك موشوماً بأختام الوصايا
وبأحمال بعيرين ندم

والوزن يومئذ الحب

أيها الماجد: ولمن جاء به حمل بعير ولكن هذه المرة لن نحتاج للمكاييل المُثقلة للأوزان (والوزن يومئذ ) الحب ، بل للغضارات لكي تحتوي حبنا ، عشقنا ، تهويماتنا ، لعوامل تعرية الروح لكي تنقش وصايانا وشماً نستورق به وفخاراً مزداناً تزيده صبايانا فتنه في جيدهن ربما خلخالاً أو هيجلاً أو مسبحة تتدلى بجوار القلب تستأنس برفقته تعويذة فيروز أو عقيق غرب نيسان..

هكذا يجتمع ثالوث الجمال الصبايا والطبيعة الربيعة بنسماتها الغضة و الحلي وكأن الشاعر يريد أن يضع الجمال في أبهى حلله ممشوق القوام كلوحة جميلة ناطقة بالفتنة قررت أن تفغر فاه المعجبين وترمد عيون الحاسدين

رجال من صلصال

ترى هل غادر الشعراء من متردم ، وهل يملكون العصا السحرية التي تحيل الرمال إلى ذهب ، أخال الكثير يظن أن ثمة سامري يحاول أن ينفث من فيه ريحاً ليذرو ما تبقى من أسانيده الرائعة لكن المفاهيم التي يسكبها الشاعر الماجد في قوالب الروح تختلف كثيراً عن وظيفة أولائك المتخصصين في النفث في العقد أما هو بتواضعه فقد أحال غبار الطين إلى مرحلة التخلق فنفث فيها من روعه روعة ومن ألقه لوعة فاستحضر نكهات التاريخ دون أن تفقد مذاقها بل أكاد أجزم أنها أحلولت على يد شاعرنا أكثر فأكثر ولو كتب القضاء لقطعنا أيدينا افتتاناً غير آبهين ولا مبالين فنسوة المدينة هذه المرة قصائد جاءت على استحياء ، تحكي دندنة ، تتغنج طرباً فتنتشي كل خلايانا.

أيه أيها الماجد لا تلقي مثاقيلك في بحري لكي تصطاد بحروفك ، روحي سآتي إليك لتلقي في روعي بعضاً من همهمات احبارك الرائعة لتلون بها دمي ومزاجي المتقلب كفصول حياتنا الاربع في يوم واحد.

في الشعر لا توجد محرمات

يكتنز الشاعر في كلماته مخزوناً رائعاً من معجم اللغات (الفارسية ، التركية ، العربية ، الخ..) الذكريات (التاريخ ، التراث) يستحضره متى ما شاء ليشعل بخور الذاكرة بكل النكهات الجميلة حتى "تنشم العطارة من القطارة" – التاريخ - بأذكى وأزكى ما عجنته الأرواح مما خالط طين وجودها حديث السمار وعتاولة الرجال حين ينفردون فيسترسلون في الدعابة بلا حياء هكذا يعلن الشاعر عن الولادات المبكرة والمتجددة للأنوثة المكتظة بروعتها في مخيلتة بلا رتوش ، وللفحولة - الرجولة الماشية على استحياء بين سطور العامة ، أما هو الشاعر فإنه يتحدث عن المستور بكل صدق وأمانة على غير عادة بقية الشعراء الذين ينفخون الروح في طين الأوهام و خزعبلات الخيالات التي لم تعرف يوماً طعم آلهة الخصوبة في سومر ، هكذا ينفس الشاعر ببوح السجية عن المكنون ليخرج الخبأ من طيور الرجال حتى يحررهم من عفاريت الرغبات الساكنة في أجسادهم سائراً على درب محرر العبيد من عهد عبقر وحتى أبراهام لنكولن.

نعم هنالك الكثير ممن يمتهن الارتزاق في تجارة المحرمات الثلاث الدين والجنس والسياسة والعزف على أوتار الشهرة إلا أن الشاعر الماجد يختلف عن ذلك كثيراً فهو يمتلك كل نواصي حروف الاقلاب في صوفية جديرة بتوظيف الرمزية المغرقة في بحور الخيال الخصب.

لذا فهو مقل في نصوصه المولدة على يد القابلة.. السجية.. العفوية.. التلقائية ، فلا تكلف يذهب لاطناب المترادفات ولا إقلال يخل بجزالة العبارة وهي تمتشق من بلوطة فمه قوام المعنى الزاخر بالاثارة والحيوية مقتنصاً جميل اللفتات المكتنزة في " رواشن العتمة" و"محو الغضارات" متوجاً الخزامى ذلك النبات الغض متنفلاً بأغسال الرياحين محرزاً في عباراته حتى الاصطلاحات الفقهية الدقيقة في أبواب المواريث:

أما الأقداح والصحون لإحراز "الثلث من تركة الريح"

ذلك الجزء من المال الذي يحق للورثة أن يصرفوه على الميت بحيث لا يخل باستحقاقاتهم لكنه هنا الشاعر يضعه لتركة الريح حيث لا ثلث ولا ربع ولا نصفهما ولا ضعفهما ، نعم هنا الاصطلاح يوظف لخدمة الخيال

الشمعدانات لأباهل بها رواشن العتمة وخواء الغبار
الجرارُ لأباهل بها نزقي وشهوتي للكسر
أما الأقداح والصحون فلإحراز الثلث من تركة الريح
هكذا أكون في كامل هندامي
إليكِ طقوسي..

هكذا أكون

فكأن طقوس الشاعر في معبد الروح طريق للكمال " هكذا أكون في كامل هندامي " بعد أن يباهل رواشن العتمة فيكسر نزق الشهوة حينها تبدأ الطقوس في محضر الأنثى لتحيل الحياة إلى مكان مقدس ورسالة سامية لا مكان فيها اطلاقاً للعبث فالحياة على الدوام مقدسة في مسند الرمل.