عن الثرثرة ( قفزة فيليكس العلمية و طائرة أيوب الاستطلاعية )


 

 

 

قلتُ يوم الحدث : ( ليس مهما أن تكونَ معقولا ، المهم أن تثبتَ أن فيكَ عقلنة ) ، و اليوم - بعد الحدث - أقول لمن يعتبر نفسه معقولا - لا يفعل ما فعل فيليكس و لا يصفق للتهور - ( إن كنت لن تصفق فلا تطبل ، و اترك السفاهة ؛ نظرا لعقلك )

اليوم ، أنا هنا في كتابة من نوع آخر تتناول ما جاء عن فيليكس من عقول فيها من المحدودية و الخرق الفكري ما يكفي أو يزيد ، كما سأتطرق لمقارنات عقدت بين أحداث لا تلتقي في مقارنة - و إن كانت جميعها انقلابية -

فبدءا من المنتظرين فيليكس متشهدا قبل القفزة و ساجدا شاكرا بعدها ، مرورا بالصادين عنه لغير إسلامه ، المهتمين بمفتاح الكبسولة ، وزن البدلة مقابلة وزن الآدميين ، مكان السقوط ، احتمالية الاحتراق ، الاختناق ، التمزق ، الغليان ، الارتطام ، النزول في ساحقة ، عبورا بتجنيسه و تأويله حسب الجنس و الجنسية ، انتهاء بالانشغال عن ماهية السلوك الذي سيصدر عن فيليكس لو احتاجَ أن يقضي حاجة

كلها مؤشرات هشاشة ، لا أستشف منها غير العجز عن قراءة الحالة العلمية بإنصاف علمي ، و كأني بهم يحاولون جهدهم - و بكثافة - إثبات السطحية لديهم و الفراغ الجوفي الذي ينعت - سبقا - بالبشاعة قبل أن يدرك الجمال

ففيليكس الذي يترك الحياة - جنونا كما نرى أو لشهرة - أرانا ربا : نعي أنه ( خير حافظا ) ، و نشهد له ذلك ، و لكن فيليكس أشهدنا على ذلك بطريقة أخرى ، و هذا وجه من أوجه التجربة ، يتمثل في معايشة الله الموجود في كل مكان و استشعار الحفظ الدقيق للكائن الذي قرر اكتشاف المزيد ، فالله في الصعود ، الله في الثبات ، الله في الإيمان ، الله في القدرة ، الله في الإرادة ، الله في النزول و الله في الوصول بسلام

واقعا ، لا أدري إلى متى سنبقى نسفه عقول الآخرين ، نستخف جهودهم المبذولة و نطعن في الصحة و الشفافية و الصدق و التضحية العامة و فخامة المنجز ، لا أدري إلى متى سنكون ضد العرفان و مع الطعن ، و كأننا فقدنا الأعين النظيفة إلى الأبد

لماذا لا زلنا ننظر إلى كل الغربيين كأعداء رغم بينية العدو الغربي بالشكل الأبعد عن الظن ، المقطوع باليقين ، لماذا – إلى الآن – لا يعنينا الآخر ( الإنسان ) رغم أننا ننادي بالوحدة و الوطنية و ترك أعراق الخلق لمن خلق فسوى

ألا يعد تخطي المسلّمة - ترك التسليم الذي هو صفتها القانونية - إنجازا فذا ؟ ألا يعتبر تسخير الذات للتجربة التي نجاحها نجاة و فشلها هلاكا قيمة عظمى ؟ و إذا كنا نُحِق لأنفسنا الحكم على كل الغرب بالخطأ ألسنا نفتح لهم بابا بذات المنظور ليحكموا علينا كما نحكم عليهم ؟! أم هناك شوط لابد نقطعه حتى نعلم أن تضعيف القدرة البينة هو إقرار بالضعف مقابل القدرة

و للمعتقدين بالتهور ، ألا تجدون في هذه القفزة النوعية تهورا عجيبا يتحول من مجرد عمل دون تفكير – بحسب تعريف التهور – إلى منجز أثبت الكثير و أولد الأفكار ؟ حيث لا صعوبة و أنت تمارس الأصعب بسهولة ، و لا تعلّق مع التخلي الاختياري

نقطة أخرى ، لمن تمنوا عالما يتحدث عن طائرة أيوب الاستطلاعية بقدر ما تحدث عن فيليكس النمساوي ، أسألهم : ماذا قلتم - إن قلتم - عن هذه الطائرة قبل الكلمة التي ألقاها سماحة السيد حسن نصر الله حفظه الله ؟ و ماذا قلتم عقباها ؟ ما حجم المقولات لديكم ، كمية التفصيل فيها ، نمط المقاربة الشعورية ، إلى أي حد كنتم تشعرون بالحدث الفاجعة على إسرائيل و أنتم تكتبون عنه ؟ 

فالبينُ بينَ هذا و ذاك شاسع جدا ، عمر السياسة ما أشبهت العلم في طريقة الطرح و التعاطي و المناولة كما لسنا نملك إعلاما منحناه المدعو فيليكس و منعناه عن المقاومة ، كما أن ما يجري على لسان هذا السيد الجليل  - السيد حسن نصر الله - هو عالمٌ يتحدث عن ألف ألف عالَم ( فمالكم كيف تحكمون ) و المعروف أنه من مع سماحته ليس ضد انتشاره ، إنما قانون الانتشار ليس بيد الكل

فالسماع يختلف عن المعايشة ، و غياب القانون يفسد المقارنة ، أنت فقط فكر ، لو أن قفزة فيليكس ما تعدى وجودها في العالم العربي و الإسلامي الوجود الصحفي ، ماذا كنا سنكتب ؟ قبلا هل سيتولد لدينا ما هو قابل للكتابة .. و قس ذلك على الطائرة ( أيوب )

فمجموع البشر الذين كتبوا بزخم و زخر قفزوا في الداخل مع فيليكس القافز خارجا ، رافقوه بالبسملة و الدعاء ، انحرفوا إياه خوفا عليه و داروا معه حول نفسه يبحثون فيه عن نفسه ، إلا أنهم لم يحلقوا فوق مفاعل ديمونا النووي و لم يجتازوا القبة الحديدية بمعية الطائرة ، و لا عبروا على دبابات الميركافا أو كشفوا لوحات السيارات و استعدادات المناورة الأمريكية ؛ لذلك هم اختلفوا ، في القراءة ، في الشعور ، في الامتلاء ، في الملَكَة الانتصارية ، و ذلك في الأغلب المقارب الكلية ( نجدهم قد اختلفوا )

أيضا .. أسأل ببساطة و براءة بالغة : لماذا أقحمنا دماء شهدائنا الأبرار هنا ؟ أليس للذهن خاصية فصل و غربلة ، إنسان يقيد ما له من عمر في رقبة من ثلاث ساعات أملا في تحريك البنية التحتية للعلم ككل ، وآخر قدم روحه في سبيل الحرية والكرامة والعزة.

فنحن إذ ندين الإعلام المقصر في حق شهدائنا، لا ينبغي أن ننعى على الإعلام اهتمامه بقضية فيليكس.

كلمة أخيرة

صدقوني إن تريدوا ، ( كنتُ معقولة أو غير معقولة / أدنى أو أعلى ) لا أوسع جمالا من مخاطبة الكون ، و لا أبدى جلالا من الرؤيا العلوية ، و وحده ترك الجاذبية يعني ترك الذات ، و ترك الذات للموت في سبيل الحياة هو حياة بطريقة أخرى و موت من نوع آخر ، و لهذا تفصيله الذي سأفرد له قراءة مخصصة ، تحت عنوان
( فيليكس : نموٌ بالموت نحو الحياة )

لكن لو فرضنا أن ما شاهدنا لا يعدو عن كونه فبركة ، سواء بالتحليل المزعوم أو لأكاذيب سابقة أليس في التجربة ما يستدعي التأمل ؟ أما كنا قبالة طاقة تصر أن تنجح ؟ ألا نجد في فيليكس - الكائن الذي يترك الدنيا التي نأمن و يبحث عن أخرى يؤمن بها - يستحق منا وقوفا على تركيبته الذاتية على الأقل ؟ ألا نتساءل عن غذائه الفكري ؟ حديثه الذاتي ؟ نظره الفوقي ؟ و المتفوق لأكثر من 250 قفزة ؟!

لماذا دائما نبحث عن السوء في الأشياء ، عن الكذب و التلفيق و التهميش و غياب المنفعة و العائد الفوري ؟ لماذا لا نقرأ الحالة الذهنية في العمل ، الحالة الكونية المتعاطية مع العاملين ، لماذا لم نصب النكات على نيوتن و أفلاطون و أرسطو و من شاكلهم ممن لم نعتن يوما بأديانهم و لا أعرافهم و أعراقهم ، لا ندري أهم من العقلاء – حسب مقاييسنا – أم فيهم من الجنون ما يكفي ، نحن كنا و ما زلنا نأخذ عنهم القوانين و حسب ، لما يختلف الأمر هنا / مع فيليكس !

و أصلا ، أولا أولا ، قبل كل شيء ، كن مدهشا ، غريبا ، نادرا ، خارقا ، غيرَ معقولٍ ،  لست على العادة ، و ليس كمثلك اثنان ، عصيا على الاستيعاب ، لديك موطنك الذاتي و مهاراتك الذاتية بصفة وحدانية ، ثم انقد رجلا وجدَ نفسَه مؤمنةً أنها أسرعُ من الصوت ، فقرر البرهنة

فأن تكره المغامرة تبعا لقانون فيه من الوقاية أقصى ما يمكن لمجرد أنك تحب النسخ المكررة ، و المعطاة بقدر العقل البارع في بلع لقم التلقين فهذه مشكلتك وحدك ، و مهما أسففت عقل الفاعل لكونك لا تستوعب فعلا كهذا ، فأنت لا تقلل براعة التجربة و لا تنقص المدى الإنجازي ، و لتقل خيرا أو لتصمت.

إضاءة :
تعلموا قراءة الحداثة قبل البحث عن الوطن الحديث ؛ كي تنسجموا معه إن وجدتموه / أو أوجدتموه