محطات في كتاب (الشيعة العرب: المسلمون المنسيون) (2)

 

 

سر تضخم الهوية الشيعية:

يلفت مؤلفا كتاب (الشيعة العرب: المسلمون المنسيون) النظر إلى التحليلات النفسية الحديثة لشخصية الإنسان حيث توجد هويات متعددة في شخصية كل إنسان في هذه الحياة، لكن ممارسة التمييز ضد إحداها قد يقود إلى تضخمها وبروزها أكثر من الهويات الأخرى في العلاقة مع الآخرين، وبذلك يكون للمحيط الاجتماعي نصيب في تحديد الهوية الشخصية، وهذا بالضبط هو سر تضخم الهوية المذهبية لدى الشيعة في الدول التي تواجه الهوية الشيعية فيها الكبت أو الهجوم، فتجدهم يعبرون عن أنفسهم كـ "شيعة" أولاً وقبل كل شيء، إضافة للفشل الذريع لهذه الدول في بناء هوية وطنية حقيقية، فهذا التضخم ليس صنيعة الشيعة بقدر ما هو صنيعة الآخرين، وإلا فالشيعة كغيرهم من بقية البشر لديهم هويات قومية وعرقية وفكرية وشخصية وغير ذلك. 

كثير من الشيعة تحتل الهوية المذهبية عندهم مرتبة أقل أهمية من غيرها ويعرِّفون أنفسهم تبعًا لتوجهاتهم الفكرية والسياسية، ولكن حتى العلمانيين منهم أو المنصهرين بشكل كامل في الحراك غير المذهبي ينظر لهم من قبل الآخرين على أنهم شيعة بالدرجة الأولى بغض النظر عن نظرتهم هم لأنفسهم! فيضعهم ذلك في موقف محيِّر حيث يخسرون جزء من شعبيتهم وسط طائفتهم التي تدفعها ظروفها إلى التركيز على هويتها المذهبية وفي نفس الوقت لا يحصلون على تأييد الأطراف الأخرى لكونهم شيعة، "وقد اشتكى بعض الشيعة المقابلين لأجل هذه الدراسة أنه لا مفر من "ملصق" التشيع، فحتى لو تسنن الشيعي فإنه يبقى في نظر السنة شيعيًّا !"(1).

تنوع الداخل الشيعي:

وفي محور متصل، ركز الكاتبان كثيرًا على "خطر" النظرة الخاطئة عن الشيعة –سواء عند بعض السنة أو الساسة المحليين والغربيين- بأنهم كطائفة واسعة يمثلون نسيجًا متجانسًا ذا لون واحد وطابع واحد والتعامل معهم على أساس موحد شبه "عرقي"، فهم كغيرهم فيهم: الإسلامي - المنفتح والمعتدل والمتشدد-،  والعلماني، واليساري، والاشتراكي، والبعثي، والتلقيدي، والمتدين، وغير المتدين، إلخ.

حقيقة وطنية الشيعة وفزَّاعة الولاء:

لقد أثبت الشيعة ولاءهم الشديد لأوطانهم في مواطن عدة، ففي تاريخنا المعاصر أثبتت الحرب العراقية الإيرانية ولاء شيعة العراق لوطنهم حيث كان أغلب جنود الجيش العراقي من الشيعة – تناسبًا من تمثيلهم لغالبية سكان العراق خصوصًا مع غياب الأكراد- ومع ذلك صمدوا في حرب في منتهى الشراسة ضد دولة شيعية حتى النهاية، كما أن السياسات التعسفية القاسية والمجازر الواسعة النطاق في أوساطهم من قبل النظام البعثي هي التي اضطرت معظم المهجَّرين واللاجئين والسياسيين العراقيين الشيعة بأن يلجؤوا لإيران كملاذ آمن مع عدم توفر خيارات أخرى كثيرة خصوصًا مع الدعم الغربي لصدام في تلك الحقبة.

وقبل ذلك أثبت شيعة البحرين بشكل قاطع لصالح استقلال وحرية وطنهم عندما صوتوا للبحرين كدولة عربية مستقلة لا كمحافظة إيرانية في الاستفتاء الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة لتقرير المصير عام 1970م.

وكذلك قد أثبت الغزو العراقي للكويت ولاء الشيعة لها حيث كانت لهم اليد الطولى في الثبات ومقاومة الغزو الصدَّامي رغم مغازلة نظام البعث لهم في بداية الغزو وهو الذي كان يتوقع صمتهم – على أسوأ التقادير- لكن جاءت الأيام بما لم يتوقعه مطلقًا، وثبت شيعة السعودية ضد خطر الاجتياح العراقي بقوة رغم مخاطبته لهم مباشرة واستعطافهم نحوه واستمالتهم بالوعود البرَّاقة، كما انهم لم ينزحوا عن مناطقهم المجاورة لجبهات القتال رغم نزوح كثير من مواطني المناطق البعيدة والآمنة جدًا.

وأثبت شيعة لبنان ولاءهم بصورة لا ينتابها الشك بمقاومتهم الأسطورية التي ما زالت مستمرة ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ومع كل ذلك، ما زالت بعض الأنظمة تروج بشكل خاطئ ومتعمد للتشكيك في ولاء الشيعة لأوطانهم وتنسب ولاءهم للخارج أو تصفهم بأنهم أصحاب "ولاء مزدوج" - في أفضل الأحوال- محاولة بذلك إطالة أمد قبضتها الحديدية على "جميع" مكونات شعوبها بزرع الخوف في نفوس السنة من شركائهم في أوطانهم – الشيعة لكي لا يطالبوا بحقوقهم كشعوب ولا يتعاطفون مع مطالب الشيعة كجزء من هذه الشعوب لتوهُّم وجود خطر أكبر من خطر الحكم المستبد. وقد كان للتوترات السياسية الخارجية انعكاسات سلبية ملحوظة أيضًا في زيادة التشكيك في ولاء الشيعة لأوطانهم، وهو مشابه –إلى حد مَّا- لما حدث للمسلمين الأمريكيين من قبل المباحث الفيدرالية "الإف بي أي" في بعض فترات التوتر بين الولايات المتحدة وبعض الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي.

وفي مقاربة أخرى يتعرض الكاتبان لأسئلة محورية جدًا في هذا الموضوع، وهي: ما هو تعريف الولاء؟ ولمن يكون؟ وتحت أي ظروف؟

ويجيبان بأن "في نظر أصحاب الحكم المطلق، يعتبر الولاء طريقًا ذا اتجاه واحد كشيء يعطى دون قيد أو شرط من الرعية للحاكم، بينما في النظم الاجتماعية الحديثة، الولاء ليس مطلقا غير مقيد بل ينطوي على مجموعة التزامات ذات الاتجاهين: فإذا كان متوقعًا من المواطنين أن يدينوا بالولاء، فإن الحاكم عليه أن يلتزم بالاستجابة لحاجات ورغبات الشعب أيضًا. في الغرب، تعود هذه الأفكار لمفاهيم "العقد الاجتماعي"  بين الشعب وحكومته... لكن هذا المفهوم ليس غريبًا على الإسلام أيضًا، فمفهوم "البيعة" متجذر في الفكر الإسلامي حول الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم... -والبيعة هي- اتفاق بين الحاكم والمحكوم يتعهد فيه الطرفان بالتزامات معينة تجاه بعضهما البعض"(2).

ويواصلان القول بأنه عندما تكون الدولة هي المعبِّر الحقيقي عن "الأمة"، فإنه صيانتها تكون عند ذلك المقياس الحقيقي لـ "الولاء".. وبالتالي فإن كفاح الشيعة ضد الدولة (التي لا ينطبق عليها الشرط السابق) – سواء كان سلميًا، ديمقراطيًا، أو عنيفًا- ليس موجهًا بالضرورة ضد المجتمع الواسع في البلد، لأن الدولة لا يمكن أن يقال بأنها تمثل "الشعب" أو "البلد".. وإذا ما اعتمدنا في هذه الحال تعريف الأنظمة الحاكمة، فإن تعريفات الولاء والوطنية سوف تضيق لدرجة أن يكون الولاء فقط هو الولاء للأنظمة المستبدة.. بل وحتى "

المواطنة" الحقيقية، وفي ظل هكذا ظروف لا يصبح الشيعة هم الخاسرون فقط، بل يخسر المجتمع بأجمعه وهو الذي يشاهد تضييقًا أكثر على حرياته وحقوقه المحدودة أصلاً باسم "صيانة الدولة" (3).

وباختصار شديد، "هناك فرق سياسي وفكري واضح بين الولاء للعائلة –الحاكمة-، والولاء للدولة، والولاء للوطن بمعنى أوسع"(4).

 


 

(1) ص20.
(2) ص39.
(3) ص50 و51.
(4) ص167.