محطات في كتاب (الشيعة العرب: المسلمون المنسيون) (3)

 

 

 

العلاقة مع إيران:

لعل من أبرز مظاهر التمييز ضد الشيعة العرب هو الربط الدائم لهم بإيران كأصل عرقي وديني وكأيدولوجية ونظام سياسي، ولكن ما مدى دقة هذا الربط وواقعيته وحدوده المعقولة؟
يقسِّم الكتاب نظرة الشيعة العرب لإيران إلى ثلاث زوايا:

1) إيران بصفتها أكبر بلد شيعي في العالم: مع أن الشيعة الإيرانيين لا يشكلون أكثرية الشيعة في العالم، إلا أنه لا توجد "دولة" بعينها يتركز "المواطنون" الشيعة فيها بهذا "العدد" الكبير مثل إيران. وهذه النظرة لا علاقة لها بالولاء مطلقًا، بل هي مسألة ديموغرافية بحتة.

2) إيران كمركز ديني: لقد كان العراق –تاريخيًا- المركز الديني الأبرز للشيعة في العالم حتى بداية سبعينات القرن الميلادي المنصرم عندما خنقت سياسات النظام البعثي في العراق الحوزة ورجالها وهجَّرت الكثير من العوائل الشيعية – والعلمائية خصوصًا- إلى إيران قسرًا والتي تقدر أعدادهم بمئات الآلاف ثم ازداد الأمر سوءً حتى خرج ملايين الشيعة من العراق بسبب الحروب والإعدامات والاعتقالات والمجازر والتهجير الجماعيين، فانتقلت القيادة الدينية إلى مدينة قم تدريجيًا خصوصًا مع فشل الدول العربية في توفير المناخات الملائمة لازدهار الحوزات الشيعية فيها حتى مع تحلي بعض مناطقها بتاريخ حوزوي عريق ومركزي في تاريخ التشيع مثل البحرين ولبنان التي تشيعت إيران ذاتها على يد علمائيهما قبل خمسة قرون. 
وحتى بعد تغير الوضع في العراق ورجوع الحريات الدينية لشيعته، فإن إعادة حوزاته إلى الصدارة العلمية سيتطلب الكثير من الوقت والصبر.
ويصرُّ الشيعة العرب على أن علاقتهم الدينية بإيران – كبلد ومراقد مقدسة وليس بالضرورة كدولة ونظام سياسي – لا تتعارض مع ولائهم الكامل لأوطانهم.

ويشار على صعيد آخر أن السلفيين في مختلف الدول لديهم علاقات دينية أكثر عمقًا مع السعودية، وكذلك العلاقة المتينة بين كثير من المسلمين السنة وبين مصر والأزهر، لكننا لا نلاحظ تشكيكًا في ولاءاتهم كما يشكك في ولاء الشيعة العرب!

3) إيران كدولة وأيدولوجية: "مثل الكثير من السنة العرب، كل الشيعة العرب – تقريبًا- يحترمون حقيقة الثورة الإيرانية.. وقدرة قادتها على هزيمة القوة الاستثنائية للشاه ودعمه الأمريكي.. ومواصلة تحدي الغرب.. وبالتالي فإن إيران هي رمز قوي لمعاداة الإمبريالية الغربية بالنسبة لغير الشيعة بل حتى للعلمانيين العرب والمسلمين" (1).
ومع الإعجاب والتأثر بهذا الجانب، إلا أن النظام الإيراني في الحقيقة لا يمثل الموقف الشيعي العام بل "يعارَض بشكل فعَّال من قبل أعداد كبيرة من الشيعة الذين لا يتوافقون معه أو يفضلون البقاء خارجه.. وبذلك فإنه لا توجد كلمة واحدة من إيران تلزم جميع الشيعة بالضرورة (2)".

ومن الأمثلة على ذلك هو أنه عندما نفي السيد الخميني إلى العراق عام 1965م فإنه " كان معزولاً عن الشيعة العراقيين، وكان نفوذه أقل بكثير من السيد محمد باقر الصدر.. وبعد الثورة الإيرانية، اكتسب الخميني مكانة بطولية بين الإسلاميين العراقيين مع أن ولاءهم العاطفي بقي للصدر وازداد بعد إعدامه من قبل النظام في 1980م.. –ولكن- بسبب أن الكثير من الجماعات الإسلامية لم يكن لديها ملجأ آخر –في ظل حكم صدام – فإنها أجبرت على قبول الوصاية الإيرانية"، وما إن فقد صدام الدعم الدولي بعد غزو الكويت حتى سعت بعض هذه الجماعات لأن تستقل شيئا مًا عن النظام الإيراني بنقل نشاطاتها وافتتاح مكاتبها في بعض الدول العربية والأوروبية.

وأضيف أيضًا، أنه يعد استبدال "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" لمرجعية مرشد الثورة الإسلامية في إيران بمرجعية السيد علي السيستاني في العراق بعد سقوط نظام صدام في ذات هذا السياق والتوجه بعيدًا عن طهران، وأن الشيعة في عموم العالم العربي يدركون اليوم أن "السياسات الإيرانية نابعة من مصالحها كدولة أكثر من كونها نابعة من الأيدولوجية الإسلامية الخالصة أو الدفاع النزيه عن الشيعة" (3).

لكن ومع كل ذلك، لا تزال التغيرات في السياسة الإيرانية عاملاً رئيسيًا في تحديد وضع الشيعة في المجتمعات السنية في الدول المذكورة في هذه  الدراسة بسبب التمييز ضدهم واعتبارهم توابع لإيران!

انطلاق النشاط السياسي للشيعة العرب قبل الثورة الإيرانية بعقود (4):

لعله مما يفاجئ الكثيرين أن النشاط السياسي الشيعي – بما فيه الحراك العلمائي الصريح – سبق الثورة الإيرانية بزمن طويل، وهنا نورد بعض الأمثلة السريعة من تاريخنا المعاصر باختصار شديد:

- دعوة الشيخ حسن بن علي البدر الشيعة للقتال ضد قوات الملك عبد العزيز عند دخولها القطيف.

- ثورة العشرين في العراق ضد الاستعمار البريطاني بقيادة المراجع الشيعة عام 1920م.

- تمرد شيوخ العشائر الشيعة الذي أحبطه الجيش العراقي عام 1935م، والذي أعقبه بفترة وجيزة توقيع وجهاء الشيعة وثيقة تدين "الطائفية السياسية" وتغييب النواب الشيعة حتى عن قطاع الخدمات المدنية.

- الشكاوى المتكررة لشيعة البحرين عند الحاكم البريطاني ضد آل خليفة الذين كانوا يحظون بحماية بريطانية أيام الانتداب.

- المظاهرات والمواجهات والعرائض المطالبة بالإصلاح السياسي والقانوني التي قام بها شيعة البحرين بين عامي 1953م و1954م.

- المشاركة الواسعة لشباب الشيعة في الأحزاب اليسارية الاشتراكية والشيوعية، والاتحادات والاضرابات العمالية إبان خمسينات وستينات القرن الماضي في كل من: العراق والبحرين والسعودية ولبنان حيث كانت مشاركتهم فيها واضحة جدًا، ويعود بعض ذلك – حسب تحليل الكتاب- لكون هذه الأحزاب متنفسًا سياسيًا لم تَشُبْهُ الطائفية التي لم تسلم منها حتى الحركات الوطنية والقومية العربية آنذاك.

- الحركة أو "الثورة" الاجتماعية - الاقتصادية للسيد موسى الصدر في لبنان ابتداء من عام 1959م وحتى اختفاؤه في ليبيا عام 1978م، وقد أثمرت حركته في ذروتها عن تشكيل أفواج المقاومة اللبنانية (حركة أمل) فشقت طريقها الواسع في عالم السياسة اللبنانية مسجلة فيها فتحًا جديدًا بعد أن كانت حكرًا على "الإقطاعيين" من جميع الطوائف.

- المواجهة الحامية بين الحوزة بقيادة المرجع الديني السيد محسن الحكيم والمد الشيوعي في العراق في الستينات، وهي المواجهة التي تحفز بعدها الطموح السياسي عند الإسلاميين الشيعة بشكل أكبر من السابق مما أسهم في تكوين الأحزاب والحركات "الإسلامية" الشيعية.

-  تأسيس حزب الدعوة الإسلامية في العراق بين أوخر الخمسينات والستينات وهو حزب متأثر بشكل كبير بحركة الإخوان المسلمين في مصر، ويعتبر السيد محمد باقر الصدر والسيد مهدي ابن السيد محسن الحكيم أبويه الروحيين مع أنهما لم يصرحا في يوم من الأيام بانتمائهما إلى الحزب. وبعد التضييق عليه في العراق، امتد الحزب إلى لبنان وانضم كثير من أعضائه لحركة أمل لاحقُا وبعضهم انشق عنها مع من انشق من أعضائها في عملية تشكيل حزب الله، وامتد كذلك إلى الكويت حيث تنسب له بعض أعمال العنف هناك خلال الثمانينات، واضطرت أكثر قياداته إلى الهرب من العراق إلى إيران خصوصًا بعد اشتداد أوار الحرب العراقية الإيرانية حيث كان الإعدام جزاء كل من "يُشك" بانتمائه للحزب في العراق.

وهنا تنتهي المحطة الثالثة، ونختم محطاتنا في هذا الكتاب بالمحطة القادمة بالتطرق للجوانب والخطوات "العملية" الممكنة في قضية الشيعة العرب.

 

(1) ص77.
(2) ص75.
(3) ص110و111.
(4) ص28، 29، 47، و49.