الدولة الدينية وموقعها من الإعراب


الحكم فرع التصور والتصور حالة ذهنية خيالية تقترب من الواقع والحقيقة تارة وتبتعد عن ذلك تارة أخرى.

يتشكل التصور كنتيجة لما تستقبله الحواس من مدركات مرتبطة بالخارج، وأيضاً كنتيجة لعوامل داخلية قد لا تمت للخارج أحياناً بصلة.

نسمع ونبصر ونتذوق ونلمس ونشم ويمر ذلك عبر قنوات وأجهزة قابلة دائماً للخطأ وعرضة بالتأكيد للنقص، ثم تكون هناك أيضاً فلترة ومعالجات داخلية قبل أن نشكل أي تصور يمكن أن يستقر في أذهاننا.


تلعب المسبقات الذهنية وبنى التفكير والعواطف والغرائز والحالة الذاتية والمصلحية دوراً هاماً في إعادة تشكيل المدخلات حتى لو كانت تلك المدخلات دقيقة وسليمة بنسب كبيرة وعالية في مرحلة استلامها.


من جهة أخرى، نستقبل أيضاً مدخلات معرفية غير متصلة بالواقع القريب أو المشاهد، فتدخل في أفهامنا وأدمغتنا معارف وأفكار مرت قبل ذلك على فلترات ومصفيات وتعديلات خارجية عبر النقل التاريخي أو المعاصر واصطفاء وتحوير وتعديل الرموز والأسلاف والأهل والأقرباء والأصدقاء ... الخ. فتصل لنا معارف ونقولات تمت معالجتها وفلترتها عشرات ومئات وربما آلاف المرات أو أكثر في بعض الحالات أقلاً.


بعد هذا كله لا يمكنك أن تثق بما استقر أو سيستقر في ذهنك، ولا يمكن إلا أن تعتبره صواباً قابلاً للخطأ أو خطأً قابلاً للصواب ... فتقبل بجعله قابلاً للمراجعة والمناقشة الدائمة أياً ومهما كان.

لكننا للأسف خصوصاً في السنوات المبكرة من أعمارنا، وفي حالات قلة الوعي والنضج والمعرفة نستسلم لحالات عاطفية ونفسية ونخضع لهيمنة أفكار أولية تشكلت في أذهاننا في السنوات الأولى من أعمارنا فنرفض الشك ونميل لليقين ونغلق كثيراً من أبواب ومنافذ المراجعة والقبول بالنقد خصوصاً في القضايا الدينية التي تدعمها ثقافات تكميم الأفواه وفرض الانغلاق ومنع وتحريم النقد تحت مختلف المبررات.

 

وكمتدينين، عندما نستقبل فكرة دينية كفكرة الدولة الدينية، فإننا ننبهر بها ونستقبلها بفرح الأطفال وندعوا لها بحماسة الجهال ونتشدد ونتطرف في جعلها المثال الأعلى للدولة الغير قابل للجدال والنقاش، وكأنها فعلاً دولة الله في الأرض. فقد زكاها وامتدحها رجال الدين ورموز القداسة والأهل والأصدقاء والأحباب ووضعوا لها شعارات وعناوين براقة وأدلة وشواهد من آيات أو أحاديث أو تاريخ ديني مقدس وربطوها بشخصيات أو تصورات مقدسة ... أو جيروا لها كل ذلك معاً، فغدت مما لا يمكن رفضه ولا مراجعته ولا نقده.

مع أن وقفات بسيطة من التأمل يمكن أن تقف بنا عند نقاط هامة وزوايا حرجة، فماذا عن الدولة الدينية، عند من كان لا يؤمن بدستورية الدولة من رجال الدين السابقين الذين قدسناهم أو قدسهم أسلافنا، مثلاً؟!.


وماذا عن الدولة الدينية، عند من كان أو لازال ممن لا يؤمن بالتقنين القانوني للأنظمة في المحاكم أو غيرها من أجهزة الدولة، في دولة شيعية هنا أو أخرى سنية هناك، وبحجج دينية واهية تجعلنا فقط نتخلف عن ركب الحضارة، فهل هي فعلاً أفضل دولة يمكن أن تنشدها البشرية في الوقت الحاضر؟!.


وماذا عن الدولة الدينية، التي لا يؤمن دعاتها ومروجوها بفكرة الديمقراطية باعتبارها نقيضاً لدينية الدولة وتصوراتها القابعة في رؤسهم وأدمغتهم؟! فهل يمكن أن تحقق تلك الدولة العدالة والحرية والإستقرار والتنمية فعلاً؟!.


وماذا عن تلك الدولة الدينية التي تهب بعض أشكال الحرية وتحترم بعض أشكال التنوع لكنها تمارس الإستبداد الديني ضد أتباع الأديان أو المذاهب الأخرى أو غيرهم بشكلٍ ما وإن تبنت بعض آليات الديمقراطية ووضعت صندوق أو علبة اقتراع هنا أو هناك، كما وتضيق حكوماتها ودساتيرها في الحقيقة ذرعاً بمشروعية تدوير السلطة، وانتقالها من نسق حكم إلى نسق حكم آخر مختلف، مهما تنوع وأياً كان ذلك النسق، المدعوم بالإرادة الشعبية القابلة للتحول والتبدل التاريخي المستمر.


وماذا عن دول دينية تاريخية أو معاصرة أو شبه معاصرة، كانت الأمثلة والشواهد الكثيرة تثبت أن قائدها كان يستبد برعيته أو يهمل رعيته أو لا يملك تصوراً مميزاً ولا آليات فذة وفاصلة لإدارة دولته والرقي بشعبه. وماذا عن تلك الدولة الدينية التي لم تكن تعرف النظام المكتوب ولا شبه المكتوب ولا تضبط بمعايير موزونة خدمة الشعوب حتى أولئك المقاتلين تحت رايات الدولة ومن يستشهد منهم مع قادتهم ورموزهم في المعركة، فتلفح أيتامهم حرارة الشمس وينهكهم الجوع دون أن يشعر بهم زعيم تلك الدولة الفاضلة... الخ؟!!!.


في الواقع، كثيراً ما رفع بعض رجال الدين شعارات براقة، عن دول في الماضي أو الحاضر أو دعوات للمستقبل لدول دينية يفترض أنها الأفضل عبر التاريخ أو أفضل ما تحقق أو ما يمكن تحقيقة، مع افتقارها واقعاً لكثيرٍ من مقومات الدولة الحقيقية أو العادلة، ولحظات قليلة من الوقوف الجاد ضد الإستسلام الأعمى لتلك الأفكار التاريخية أو المعاصرة ومحاولة النبش في عيوبها كفيلة بأن تكشف لنا حقيقة تلك الشعارات المزيفة وغير الواعية وغير الواقعية.

إن المتأمل لفكرة الدولة الدينية المتوارثة عبر أفكار الآباء والأجداد وبعض الرموز الدينية ومعظم رجال الدين الذين لم يتمرسوا السياسة ولم يفهموها جيداً، يمكنه أن يجد أنها كانت ولازالت دائماً وأبداً مجرد تصورات واهية وفكرة خيالية معطوبة تتم معالجتها وترقيتها وإصلاحها دائماً وباستمرار في محاولات متأخرة دائماً هدفها اللحاق بركب الحضارة المتقدم والذي لم تستطع تلك الأوهام بلوغه أو ركوبه يوماً ما، هذا طبعاً عوضاً عن تجاوزه، وهذا أكبر دليل على أنها كانت دائماً أفكاراً ناقصة ومتخلفة ورجعية في إطار جميل تتعرض للتطوير المستمر فقط وكأنها لم تطرح أبداً كأفكار خلاص نهائية، فغدت تلك الأفكار الدينية مثل بقية الأفكار البشرية، التي تتعرض للترحيب في مرحلة، ثم الترحيل من مرحلة لمرحلة أخرى، وتصدر منها نسخ دورية محسنة ومعدلة ومطورة، قد تتلافى بعض عيوبها الماضية.


إنني على قناعة تامة، بأن (الدولة الدينية الفاضلة) في تصوراتها التاريخية كما هي كذلك في تصوراتها المعاصرة، ليست غالباً سوى مركب من مجموعة تناقضات وأوهام يمكن أن تنفضح حقيقتها لو عدنا لها بقليلٍ فقط من التدبر والبحث والتدقيق والنقاش العلمي والموضوعي الجاد لبعض الأمثلة والممارسات الواقعية الفاشلة.


وليست الدعوة هنا، أن نكون ضد الدولة الدينية أو معها، لكنها دعوة يدور محورها حول ما قدمه لنا التاريخ ودعاة الدولة الدينية من تصورات عنها ومشاريع لها حتى اليوم، فأفضلها لا تخلوا من استبداد وديكتاتورية وظلم وتفرقة دينية وطائفية، فهل سنقبل بتلك الأفكار غير الناضجة والمتأخرة فقط لأنها تسمى باسم الدين ... أم ننتظر من يستطيع فهم الدين على حقيقته والحديث عن دولة حقيقية واقعية متقدمة؟!.