شكراً جنود الوطن!


 في مطار مدينة كالامازو بولاية ميتشجن الأمريكية، وأثناء رحلتي إلى شيكاغو، بعد أن وفقني الله للمشاركة في أحد الأنشطة هناك.

وأنا في قاعة الانتظار عند بوابة الخروج للطائرة، جلس غير بعيد عني، وبزيه العسكري، الذي كان يشير إلى أنه أحد الجنود الأمريكيين، شاب من ذوي البشرة البيضاء.

وعلى مقعد آخر في ناحية أخرى، جلس زميل له، بنفس الزي، وعلى نفس الهيئة. بعد قليل، وإذ بسيدة عجوز أمريكية من أصول أفريقية، تقترب من الشاب الأول، قائلة بلغتها الإنجليزية excuse me (لو سمحت).

وكما حسبت مقصدها ذهب الشاب إلى نفس المقصد، فأراد أن يفسح لها، لتجلس. لكنها وضعت يدها على صدرها، قائلة إنها لا تريد الجلوس، وإنما جاءت فقط لتقدم له الشكر على خدماته. وأنه يستحق التقدير والثناء، لما يقوم به من حماية لبلده "أمريكا"، وللمواطنين. ثم توجهت لزميله، وشكرته هو الآخر!.

لا أخفيكم، هذا المشهد أثرّ فيَّ كثيراً، واستدعاني للكتابة. إذ أكبرت تصرف تلك السيدة، وإحساسها الجميل بما يقوم به جنود الوطن لخدمة بلادهم.

ومن الطبيعي أن أسقط ذاك السلوك على الوضع في بلادي، كما يحصل عند كثير منا مع كل مشهد حين سفرنا للخارج.

وفي الحال مرت بذهني صور جنودنا في الوطن، والعلاقة التي تربط المواطنين بهم. وقفز إلى لساني المثل الدارج عند عامة الناس "الشرطة ورطة، والبلدية أذية"، وتبسمت لتسمية رجل الأمن عندنا بـ"البعبع"، الذي بتنا حين مرآه نقول: "اللهم يا كافي"! وحاصرتني تساؤلات شتى، أحدها فرض حضوره عليَّ بقوة، كان محوره: لماذا تشكّل ذاك الحس الجميل عند تلك السيدة تجاه أولئك الجنود؟

وتساءلت عن الوظيفة الأساس، والدور الأهم لكل جندي، وتتالت الصور في مخيلتي وازدادت تساؤلاتي، منها: لماذا ومتى توجد فجوة واسعة بين المواطنين وبين جنود الوطن؟! ومن المسئول عن وجودها؟ وكيف تتمكن الدولة من تقليص تلك الفجوة، ومن تنمية مثل ذاك الحس الذي شعرت بوجوده عند تلك السيدة الأمريكية؟

وهنا تنبهت للأهمية الكبرى لتنمية مثل هذه العلاقة، وهذا الحس الراقي بين حماة الوطن من جنوده، وبين مواطنيه، والذي أراه يقع في الدرجة الأولى على عاتق المعنيين بوضع سياسة الدولة. ووجدت أنها مرهونة بمرتكزات هامة، إن تحققت؛ تحقق معها جمال تلك العلاقة التي تربط الطرفين، وتشكل رافد قوة له.

فذهبت – ولعلي أكون مخطئة فيما ذهبت إليه – أن المرتكز الأول لذلك هو عدم التمييز بين المواطنين، أو الإقصاء والتهميش لفئة منهم.

فكيف يا ترى سيكون شكل العلاقة القائم بين الطرفين (الجندي والمواطن) لو عملت الدولة على تحقيق مبدأ العدالة والمساواة في تقلد الوظائف العامة، ولم يغلب على تعيين أولئك الجنود في تلك الوظائف أحد أشكال التمييز، كما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أصبح ميثاقاً أخلاقياً عالمياً، من دون الحاجة للمصادقة عليه من قبل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وجاء في فقرته الثانية من المادة الـ21، من أن "لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد".

ويندرج ضمنها تعيين كل أبناء الوطن في السلك الأمني والعسكري، إذ يجب أن تتاح فرص خدمة الوطن لكل عناصره، بحيث يتسنى لجميع أبنائه الالتحاق بهذه الخدمة والمهنة العظيمة، دون تمييز بينهم، أو إقصاء لفئات منهم دون أخرى بسبب اعتبارات مناطقية، قبلية، مذهبية وأيدلوجية. فجميع أصحاب تلك التصنيفات – إن جاز لأحد التصنيف – مسئول عن خدمة الوطن، ما دام أصحابها مواطنين، والتي بالمقابل تشعره تلك المسؤولية بانتمائه إليه، وأنه جزء من نسيجه ومكوناته.

يندرج تحت هذا أن تتاح الفرص بالتساوي لجميع أبنائه في تولي المناصب المختلفة في أجهزة الأمن والداخلية والعسكرية، مهما علا شأنها وموقعها، بدءاً من الجندي، وصولاً إلى الوزير، والتي نراها قد حصرت في فئات بعينها، فلو أن تلك السيدة الأمريكية، كانت تعاني استياءً من استثناء بني جلدتها من تلك الوظيفة، أو أن المناصب العليا تحتكر لفئة دون أخرى، والذي من المؤكد أن هذا غير وارد في السياسة الأمريكية، التي رشح مواطنوها، ولدورتين متتاليتين، رئيساً من أصول أفريقية ، أو كانت تراهم موجهين عليها، لا لأمنها وحمايتها، هل كانت ستنظر لهم بتلك النظرة المثمنة لعملهم، ثم تزجي الشكر لهم؟!

المرتكز الثاني، هو أن تدرك المؤسسة الأمنية أن علاقة جنود الوطن بالمواطنين علاقة حماية في الدرجة الأولى، وليست علاقة مواجهة. لأنها مع هذا الإدراك ستصب جهودها في ترسيخ قواعد هذا البناء الاستراتيجي في منظومة عملها، وتوفر طاقاتها العظمى في حماية أبناء الوطن من الأعداء المتربصين به السوء.

ومرتكز ثالث، وسيكون نتاجاً لحصول المرتكزين الأول والثاني؛ هو محو ثقافة الاستقواء بالسلطة – وإن كان على غير وجه حق – بين أفراد الشعب نتيجة لذاك التمييز، وطمس ثقافة التعالي والسيادة عند البعض، عبر تكريس جوهر وقيم المواطنة الحقّة.

ومرتكز رابع، هو أن يتم اختيارهم بناءً على مؤهل علمي يتوافق مع مهام العمل، وليس اختيار جنود لا يجيدون حتى القراءة، مع ضرورة تمكينهم معرفياً من مهام وواجبات وظيفتهم، وحقوقهم وحقوق الآخرين عليهم، ومحاسبتهم عليها حين تجاوزهم لها، وتنمية الوازع الديني لديهم حتى لا يرتضون الانصياع لأوامر بعض المتنفذين في غير وجه حق، وبغير ما أنزل الله، والذي قد يأخذ بهم إلى هاوية الدنيا قبل الآخرة. وتعريفهم بالبيئة التي يعملون فيها، مع توفير سبل تقوية أواصر العلاقة الجيدة مع قاطنيها. 

أقول إن حصل وتم مثل هذا البناء غير المكلف؛ ألن ينمي ذلك حينها عند كافة أبناء المجتمع التعاون معهم، وتقدير عملهم، لأنهم أهل للثقة؟ وحينها سيدرك كل مواطن أن حماية الوطن والعمل في هذا المجال واجب مناط بالجميع، كما هو حق ليس لفئة دون أخرى، ولا يجب أن يحرم منه أحد بأي من الاستثناءات! وتأكيد أن رصاص أي جندي موجه لعدو الوطن وليس لصدور ورؤوس أبنائه، الذين حين يفقدهم، أو يتهاون في حمايتهم فإنما يكون فقد أهم ركائز بنائه.

عند ذلك سيفعل أبناء الوطن جميعهم دون استثناء، كما فعلت تلك السيدة، التي تعرف أن القانون ودون أي تمييزٍ كان (عنصري أو غير ذلك)، كفل لها ولأبناء جلدتها حق مساواتهم بغيرهم، فما كان منها إلا أن تضع يدها على صدرها، وتقول لهم: شكراً.