التبشير بالتواصل مع الحكومات


 

 

لن تحتاج كثيراً للحديث تفصيلاً في التأصيل دينياً وعقلياً لقيمة ومشروعية التواصل مع الحكومات الفعلية الواقعية القائمة أياً ومهما كانت، ما دامت هناك مصالح وفرص ولو ضئيلة جداً للحديث عن رفع الظلم وتطوير الواقع وإقامة الإصلاح والتفاوض حوله، إلا أن يكون ذلك الحديث هنا بغرض التبشير بمشروعية ذلك التواصل وسط الجماهير المعاصرة، في أزمنة لازالت فيها القطيعة السياسية مع الأنظمة السياسية الحاكمة تحظى بشعبية تشل الحراك السياسي في بقعة ما هنا أو هناك، وتشكل عبئاً على كاهل الأمة المسلمة ونخبها الواقعة تحت هيمنة أنظمة غير ديمقراطية قوية، وذلك على الأقل بسبب بعض العوامل الدينية، وبفعل رواج ثقافة القطيعة بشكلٍ مغلوط ضمن ثقافة الكثير من أتباع بعض المذاهب الإسلامية.

وبعبارة أخرى، فإن ذلك الحديث حول التواصل، ليس بحاجة لأن يكون تأسيساً عقلياً ولا دينياً لمشروعية ذلك التواصل، بقدر ما هو حديثٌ تبشيري، يجب تكراره ما دامت الحاجة لذلك التكرار قائمة جماهيرياً، وهو الواقع. فيكفي واقعاً هنا، في التأصيل دينياً لمشروعية ذلك التواصل، وبياناً لإدراكنا لمشروعيته، ولتجاوز ذلك الجهل السياسي الديني الشعبي المطبق، الذي يكبل العقل والمنطق وطرق الإستدلال السليمة، عن القيام بدورها وتقديم حلولها، أن نتلوا قوله سبحانه وتعالى في خطابه لنبيه موسى وأخيه هارون (عليهما السلام): ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) - سورة طه.

فهذا الخطاب الرباني، عبر النص القرآني الكريم الوارد هنا، وبالإضافة أيضاً للكثيرٍ من تلك النصوص الدينية الشريفة المعروفة، ولما وصلنا من سير الأنبياء والأئمة ، في تأكيد التواصل وعدم القطيعة مع المخالف والمختلف والحاكم، وسيرة العقلاء أيضاً في ذلك في الماضي والحاضر، كلها فيها بوضوحٍ وجلاء ما يكفي، لأن نكتشف ولأن نكشف للآخرين، بأبسط قواعد المنطق وطرق الإستدلال، مشروعية ذلك التواصل دينياً ومنطقياً، ولنبين ونستبين أيضاً، أن التواصل هو الأصل، وأما القطيعة فهي مجرد استثناء فقط، وليس العكس، وذلك خلافاً لما صوره وما لازال يصوره لنا البعض من أنصار القطيعة، وخلافاً لما وصلنا من ذلك عبر تراثٍ ملوثٍ بالأخطاء السياسية، مهما حاول البعض الإتكاء على ما خالف ذلك ظاهرياً من النصوص أو الفلسفات أو مناهج الإستدلال البدائية والخاطئة والبالية، التي لا تستند على علة حقيقية ولا دليل صحيح ولا برهان تام، وذلك لمخالفتها جميعاً أساساً، لنص القرآن الكريم الذي يقع دينياً ضمن لب الدين والعقائد، وهو نص واضح وصريح هنا، وهو دافع باتجاه قيام تلك العلاقات السياسية الوطنية رجاء المصلحة حتى لو كانت في حدها الأدنى، كما هو واضحٌ هنا، أي حيث ينعدم أو يكاد ينعدم هنا في هذا المثال، الرجاء في الإصلاح، وذلك في مؤشرٍ لمحاولات إصلاحٍ سياسي، لا بد أن تقوم وأن تتكرر وأن تستمر، مع مختلف الحكومات أياً كانت.

وعلى العموم، فإن التواصل السياسي مهما أبينا، قائم دائماً في هذا العالم المادي بنسبة ما، ويفرض نفسه في كل الأحوال وكل الظروف، حتى في أزمنة تلك الحروب الشرسة، التي تدفع باتجاه القطيعة التامة بين المتحاربين، في الوقت الذي يؤكد فيه العقل والمنطق، إلحاح تلك الحاجة للتواصل بين البشر مهما كانت صراعاتهم، وعدم عقلانية القطيعة التامة وغياب الحوار بتاتاً. ولذلك فالواقع، يفرض وسيظل يفرض نفسه على الجميع، وإن خنقه البعض بجهلهم. وهذا ما يبرهن بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه لمن أراد أن يبصر، ضرورة ومشروعية التواصل والحوار مع الحكومات الحالية، القائمة اليوم في هذا العصر تحديداً وفق امتيازاته، بتنفيذ تلك الحكومات الحالية لمشاريع المجتمع في الواقع، فهي القابضة على ذلك، وبشكلٍ غير مسبوق، في قبال ما كانت عليه الحكومات في الأزمنة الخالية، من طبائع للحكم، ومن محدودية في الدور.

ولذا، فلسنا بحاجة هنا لإطالة الحديث في ذلك الجدال كما أسلفنا، لبيان تلك المشروعية ووجاهتها سياسياً ومنطقياً ودينياً، ولكشف خطأ القطيعة السياسية المطلقة التي يمارسها البعض، والتي طالما روج لها، إلا تبشيراً هنا وتكراراً لمنطقٍ يجب أن ينتشر في وسطٍ مظلم يجب أن يكتسب النور. خصوصاً، إذا علمنا أن تلك الدعوات للتواصل هنا، يراد لها أن تقوم مع أطرافٍ قوية وفاعلة ومؤثرة، كتلك الحكومات القائمة المعاصرة، ومن قبل الأطرافٍ الأضعف في المعادلة، والتي لا تملك واقعاً، مهما تشدقت بشعارات القوة، الكثير من القوة الفعلية، لإعادة بناء الواقع بشكلٍ تأمله وتدعي أنه الأفضل، حيث لا تشكل تلك القوى المجتمعية واقعاً، سوى مجاميع أفرادٍ أو جماعاتٍ متشظية ومتفرقة ومتخبطة، لا تملك البصيرة ولا الخطة ولا الكفاءة ولا الوعي السياسي ولا الوحدة، ولذا فهي تمتلك فقط القدرة على تدمر وإرباك واقعها، أكثر بكثير من قدرتها على القيام بأي شيء آخر مجدٍ، حيث التخبط والهدم هنا أسهل لها من البناء.

ورغم انتقادنا لفكر وثقافة القطيعة، ولتلك القطيعية التي تقود تيارات تلك التوجهات، لكن هنا، وإنصافاً منا أيضاً، ومن أجل فهم وتفسير طبيعة ذلك الرفض، وتلك الدعوات للقطيعة، بشكلٍ جيدٍ، فلا بد هنا من القول، أنه ورغم كل مبررات التواصل وأدلة مشروعيته التي نؤمن بها والتي تفرض نفسها في الساحة، إلا أنه لا شك أيضاً، أن جرح المواطن العربي والمسلم، الذي يعيش في دول تحكمها أنظمة قمعية وغير ديمقراطية، حيث يعيش المواطن فيها الفقر والظلم ويعاني فيها من الحرمان ومن قصور أو تقصير وقصور في الأداء الرسمي ... الخ، هو أكبر بكثير من جرح أي مواطن آخر قد يعيش هنا أو هناك في دول ديمقراطية، من تلك التي تقع خلف البحار في الشرق أو في الغرب، وربما يعاني فيها هو أيضاً، من الفقر والحرمان وقصور أو تقصير وقصور أيضاً في أداء الأجهزة الرسمية ... الخ، لسببٍ ما.

فهنا بلا شك، مهما تساوى حجم المعاناة، فلن يتساوى بالطبع حجم الجراح النفسية، ومقدار الشعور الداخلي بالظلم، الذي يدفع حتماً بالإنسان - أي إنسان كان - خصوصاً ذلك البعيد عن إدراك أبعاد وتعقيدات السياسة وملابساتها وخباياها، باتجاه القطيعة التامة مع الأنظمة السياسية الحاكمة، وتعزيز ثقافة الرفض قولاً وسلوكاً وفعلاً، على قاعدة ذلك الجرح الغائر في روحه، وفي أرواح الكثير من المظلومين والمحرومين والمهمشين. وذلك طبعاً، نتيجة لإختلاف طبيعة بيئة وخلفيات كل ظرف من ظروف تلك الأوضاع السياسية في تلك الدول، ولاختلاف مبررات تلك الجراح وأسبابها وطرق وآليات معالجتها والتعامل معها في كل نظامٍ من تلك الأنظمة السياسية. مع الأخذ هنا بعين الإعتبار، من باب الضرورة، أن كل تلك الأنظمة الحالية القائمة في عصرنا الراهن وفي الزمن الحاضر في النهاية، هي بلا شك ودون استثناء بدرجة ما، قهراً واضطراراً أقلاً، أنظمة خدمية تقدم خدماتها للجماهير، وتسير صاعدة في ذلك المسار الخدمي الحضاري المستمر في تصاعده مع الزمن. وبالتالي، فهي تختلف كثيراً عن تلك الأنظمة التاريخية الجبائية الرجعية والبدائية، القابعة في أذهان الكثيرين، والمسيطرة على طبيعة تفكيرهم، وهي الدول التي مرت بها البشرية عبر حقب التاريخ المظلمة الماضية، والتي يمارس البعض معها الآن بشكلٍ خاطيء تماماً، فعل المقارنة مع واقعه المعاش في هذا العصر!!!.

وهنا، وبالتأكيد على فاعلية ذلك الجرح النفسي، في ثقافة وفكر الأجيال العربية والإسلامية المعاصرة، خصوصاً لدى بعض الجماعات والفرق والمذاهب الإسلامية، التي تعزز ثقافتها وعقائدها وأفكارها المتداولة أو المتوارثة، فعل المعارضة والرفض والتحدي، فيمكن القول هنا، أن مثل ذلك الجرح الغائر في الأنفس، والمتقيح كثيراً لدى كثيرٍ من المواطنين العرب والمسلمين، بسبب كثرة مناسبات الحرمان والظلم، وفي بلدان ودول مثل بلدان ودول منطقة الشرق الأوسط، والعالم الإسلامي، المليئة بأنظمة حكم غير ديمقراطية، وعند أي حديثٍ هنا عن مشروعية التواصل السياسي مع الحكومات القائمة وضرورته في تلك السياقات، سيفتح حتماً على المتحدثين عن ذلك التواصل دائماً، وعلى طاولات تلك النقاشات الجادة، أبواباً واسعة بلا شك من أبواب الجدال الحادة، ومن التساؤلات عن جدوائية وقيمة وفاعلية تواصل نخب ورموز تلك الجماعات والأقليات المضطهدة، التي تستشعر الظلم والتهميش، مع حكوماتها، في ظل غياب وعدم تحقيق كثيرٍ من أحلام الجماهير وتطلعاتها الرومانسية وغير الرومانسية، الجاثمة فوق صدورها وفي مخيلاتها الشعبية والدينية، والمعيقة لها عن التطلع لحلول جزئية أو مرحلية، وهذا كله من جهة.

ومن الجهة الأخرى، فسيفتح ذلك الحديث عن التواصل هنا أيضاً، باباً آخر وأبواباً أخرى، للتساؤل بحساسية مفرطة، وبشكلٍ واسعٍ، حول دور تلك الحكومات القائمة فعلاً (أخلاقياً!!) - وهي المتهمة والقاصرة أو المقصرة -، في المبادرة لحل تلك الأزمات العالقة، وفك قضايا الظلم، وترميم تلك الجراح القديمة الغائرة، التي لا زالت تحتاج لمداواة، لكنها واقعاً تنكأ باستمرار في كل حدثٍ جديد، وبشكلٍ غير مبررٍ أمام نظر الكثير من الجماهير، فلا يهيأ لتلك الجراح بالتالي إلا أن لا تندمل. وذلك هنا، لبناء تلك الحكومات لتواصلٍ حقيقي ولمصداقية تواصلٍ ناجحٍ ناجعٍ وفعالٍ، يخدم جميع شركاء الوطن، من أسفل القاعدة الشعبية لأعلى الهرم.

وهنا، فإن فتح أبواب تلك التساؤلات مجدداً بجرأة ووضوحٍ، هو أهم ما يمكن الدعوة له هنا، لتجاوزو ذلك الموروث الفكري والثقافي المظلم والمثالي، وتلك الحالة المضطربة والمتوترة في العلاقات الداخلية الوطنية، وتلك الاجتهادات الدينية التاريخية الخاطئة الموروثة، التي خلفتها لنا مراحل تاريخية سابقة مظلمة، عشعشت فيها الأمية والكثير من الخرافات والمغالطات والأفكار القاصرة والمظلمة، وأنواع الجهالات، والصراعات الدموية الحادة والمؤلمة بين الجماعات والقبائل والقوى، والتي ولّدت ولازالت تولّد لنا ردات الفعل العنيفة، والتي عززت ولازالت تعزز في أزمنتنا، حضور الأفكار المتطرفة، ومنها فكرة القطيعة الأبدية والمطلقة مع الحكومات الرسمية القائمة.

وفي الإجابة هنا على الجانب الأول من تلك النقاشات المفتوحة هنا والمقترحة، فيأتي الحديث عن جدوائية ومشروعية تواصل النخب الفاعلة سياسياً مع الحكومات تلبيةً لحاجات المجتمع ولمتطلبات الإصلاح، من أجل معالجة جوانب الظلم والتقصير والقصور الرسمي، والتي - أي تلك المعالجات - مضافاً لما سبق من طرحٍ، فنزعم أنها لن تتم في الحقيقة إلا عبر التدافع الإيجابي بين المكونات الوطنية المتناقضة، وهو ما يتضمن حتماً ذلك التواصل الذي يمرر مطالبه عبر الحوار الوطني على قواعد المصالح المشتركة.

فهو - أي ذلك التواصل - يكشف الواقع ويبرز ويحدد المطالب ويدخل القوى الوطنية في تجاذبات مصالح تبعد الجميع عن ساحات العداء والإحتراب، ولذا فالتواصل هنا بلا شك تواصلٌ مجدٍ مطلوبٌ وبناء، يبرره الدين والمنطق، خصوصاً إذا ما تم بطرق وخطوات تفاوضية مدروسة وصحيحة، وضمن توازنات صحية وصحيحة، تستند على واقع القوى والمصالح الواقعية.

وما سواه فهو، التمزق والإحتراب والعداء واستنفار القوى الوطنية ضد بعضها البعض والحروب الأهلية والفتن والمحن السياسية وغياب الإستقرار، التي يجب أن يرفضها الجميع، بداهة ومنطقاً. والشواهد التاريخية والمعاصرة، والحسابات المنطقية، والقراءات العلمية، كلها كفيلة بأن تثبت لنا ذلك، وتبين بطلان رجحان العكس.

والمقام هنا ليس مقام التفصيل في ذلك، لأن الغرض الأساس هنا، هو فقط رفع بعض الإحتجاج المعاكس، لصالح التبشير بالتواصل، والدعوة لفتح النقاشات الجادة مجدداً حول ضرورة ومشروعية وجدوائية التواصل، وهو ما يجب أن يؤسس ويفهم على أسس وقواعد واقعية وسليمة.

والمؤسف هنا، أن ما يحدث غالباً، هو أن يتم وأن يكون ذلك التواصل من قبل بعض الأقليات في بعض المجتمعات الإسلامية، المتشددة دينياً خصوصاً، والمتخلفة سياسياً وفكرياً، بين رموز الأقليات والجماعات - من جهة - وتلك النخب الحاكمة - من الجهة الأخرى - بمعزلٍ عن القاعدة الشعبية الداعمة. أو بعبارة أخرى، على قاعدة الشعب المنفعل والغاضب والمجروح، المؤدلج دينياً بأيديولوجيا الجمود والتحجر وثقافة الرفض لذلك التواصل، والمبتلى بعدم الواقعية في طرح الحلول، وعدم الواقعية في التفكير والتوقعات الجماهيرية والشعبية، والمبتلى أيضاً في قدرته على تقدير قوة الخصوم، وتوقع مآلات خصامه وصراعه معها.

وهو ما يؤهل هنا، تلك النخب والرموز الإجتماعية التي تسعى للإصلاح، وتحاول أن تكون ممثلة للقاعدة الشعبية، أن تكون هنا فريسة، أو ضمائر يمكن أن تباع وتشترى من قبل الأقدر والأمكن والأذكى، فيتم التفاوض على شرائها، لتوظيفها في اتجاهٍ سياسي ديني اجتماعي ترتضيه أو تقتنع به النخب السياسية الحاكمة أو بعضها، لتكون بذلك هنا موجٓهةً، أكثر من كونها كما ينبغي لها هنا أو كما هو مطلوب منها جماهيرياً، أن تكون موجِهة وممثلة لقاعدتها وجماهيرها الشعبية - وهو ما تطلبه، وتحبطه، الجماهير نفسها لقصورها -، وذلك طبعاً غالباً بدعم من مبررات دينية وأحياناً ثقافية خاطئة، تعزز التدافع السلبي وثقافته وتوجهاته الخاطئة، فتنتقص هنا قيمة وفاعلية التواصل والحوار الفاعل والبناء، وقوة وفاعلية الرموز والنخب، فتقع الرموز هنا قهراً أو اختياراً، في التدجين تارة في أسوأ الحالات، أو في الشلل التام أو شبه التام في الحالات الأخرى. وهو ما لا يخدم بالطبع، الأغراض السياسية الحقيقية للجماهير.

وهذا يعني، أن قصور وعجز النضج الشعبي، عن اللحاق بوعي النخب المتواصلة مع السلطات الرسمية الحاكمة، يجعل من ذلك الجمود والتخلف الشعبي، عقبة حقيقية في سبيل ذلك التواصل البناء المطلوب، فلا يمكن بذلك للتواصل هنا أبداً، أن يكون فعالاً وعلى قواعد متينة، ترتقي سلم التفاوض مع الحاكم، ضمن خطوات وخطط سليمة ومدروسة وواعية، يتم فيها التفاوض على المصالح، وترتيبها وطنياً، ضمن منهجية واقعية، وفوق قواعد مأمونة ومتينة، ما بقي ذلك التواصل هنا كما وصفناه نخبوياً معزولاً، وغير مدعوم جماهيرياً وشعبياً. وقوامه في أحسن الحالات ﴿... اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) - سورة المائدة -. هذا إن لم يكن قائماً واقعاً وفي الأساس، على القطيعة الوطنية، والرفض التام لذلك التواصل، ومعارضته، والدفع باتجاه اجهاضه.

وهنا، حيث يكون ذلك التواصل والتفاوض، واقفاً وقائماً على، قواعد ركيكة وضعيفة ومهزوزة ومنخورة من الداخل، وحيث يكون التواصل النخبوي هنا، نخبوياً شكلياً وضعيفاً وركيكاً، لا يستند بتاتاً على قوة القاعدة الشعبية، وشراكتها في بناء الحوارات، وفي تعزيز التواصل ودعمه، بسبب بقاء ذلك السخط الشعبي، والنفور والغضب من التواصل مع الحكومات، ورفضه والتشويش عليه بشكلٍ واسع، يكون ذلك الواقع سبباً قوياً لدعم هواجس الحكومات الأمنية، ومعززاً لقلقها الدائم من شبح الإضطرابات الشعبية، ومن التجييش، ومن غليان الشارع، ومن توظيف ذلك من قبل طرفٍ ما هنا أو هناك، ما يؤدي طبعاً هنا لزهد الحكومات المشاركة في التواصل، إن شاركت فيه وهو حاصلٌ فعلاً، في ذلك النوع من التواصل المفلس واقعاً، حتى مع وجود تلك النخب المجتمعية الجادة، المندفعة من هموم واهتمامات وطنية حقيقية، الفاعلة هنا بالنتيجة واقعاً في السطح السياسي، أكثر بكثير من فاعليتها في العمق المجتمعي - الذي ترقبه الحكومات -، والتي لا تستطيع - بسبب معوقات سياسية أو ثقافية أو دينية أو غيرها، أو كلها مجتمعة، رغم واقعية مشاريعها وأهدافها - التأثير الحقيقي.

فتظل تلك النخب تعاني هنا، من عدم التجاوب والتفاعل معها بالشكل المطلوب والكافي، رغم حاجة دورها لذلك الدعم الجماهيري، حيث السياسة والمفاوضات لا تؤمن بالسراب ولا بتقديم التنازلات لمن لا يملك أو في قبال الشتات والضعف، ولا تقوم واقعاً إلا على حيثيات واقعية ودوائر مصالح حقيقية، لا إفتراضية أو وهمية.

والدعم الجماهيري هنا ووعي ونضج وفهم وتطور الجماهير معرفياً ومادياً، هو ألف باء قوة المجتمع المطلوبة للفاعلية السياسية، ومفتاح التواصلات البناءة. لذا، تثبت هنا تلك النخب بسبب تلك الحيثيات، أو فلنقل أن بعضها قد أثبتت واقعاً بسبب ذلك حتى الآن، فوق هذا الواقع المر، أنها مغيبة واقعاً، وغير قادرة على التأثير كثيراً هنا، ففشلت في كثيرٍ مما تصبو له هي، وما تصبوا له الجماهير المتطلعة لها، وكذا المهاجمة والمنتقدة لها ولمناهجها أيضاً، والطامحة في أكثر مما هو منجز عبر مثل تلك التواصلات غير المدعومة شعبياً.

وهنا، في نفس سياقات التفاوض تلك، وضمن حالات واسعة من الجمود الفكري، والرجعية السياسية، ورواج الحالة الإنفعالية العاطفية الشعبية، حيث تبرز وتظهر للسطح، هواجس الطبقة الحاكمة، وحاجاتها لفرض القبضات الأمنية الحديدية، في قبال همجية وغوغائية الشارع الرافض لها مطلقاً، وحيث يشكل ذلك، السياج والدرع الحامي لمصالح ومصائر تلك الفرق والفئات والنخب الحاكمة، يغدو ذلك التوتر بين القاعدة وقمة الهرم هنا، فرصة للقطيعة التامة الفعلية، ولزيادة الإستبداد، ولتراجع الإصلاحات المرحلية، المبنية على الإطمئنان والشراكة والتصالحات والتفاهمات والتقاسمات.

وهنا في الوقت الذي، ربما يتوقع فيه البعض، أن بروز المطالب والضغوط الشعبية الحادة، وغليان الشارع، وزيادة ضغوطه، في شكل من أشكال الغضب الخارجية، يمكن أو يجب أن تعوض نقص قوة وعي الجماهير ودورها، فتدفع وتوجه بسهولة باتجاه الإصلاحات السياسية، فإن ما لا بد من توقعه وفهمه، هو خلاف ذلك. إذا ما أخذنا بعين الإعتبار، حقيقة ما سبق ذكره، من زيادة الهواجس الأمنية جراء تلك الضغوط والإضطرابات الحاصلة فعلاً أو المحتملة، وما ينتج عن ذلك من تشديد القبضات الأمنية، وزيادة التوترات والإستقطابات داخل الوطن والمجتمع، وذلك في أطر حماية النخب السياسية لذواتها ولمصالحها، وهو الأمر المنطقي والمتوقع.

وبالتالي، فلا بد من الإعتراف حقيقةً، بأن ذلك الأمل والتفاؤل والتوقع الرومانسي الصدامي، المتكيء على فاعلية ضغط الشارع من قبل أقلية هنا أو هناك، وفي ظروفه الماثلة أمامنا وأمام المراقبين للمجتمعات الإسلامية ولبقية المجتمعات المعاصرة، وفي ظل الحيثيات المحلية والعالمية المعروفة، غير واقعي بتاتاً في معظم الأحيان، وإن كان مجدٍ في حالات نادرة.

فالمعادلات المحلية والدولية لتلك الصراعات، ومنطلقات ودوافع التشبث بالحكم، والميل لاعتبار الحالات التاريخية المستقرة في أجواء القبضات الأمنية، هي النموذج الأمثل الممثل لإستقرار الطبقات الحاكمة، والشكل السياسي المفضل والأسلم لها، وميل القوى العالمية، مضافاً لجمود وجهل الجماهير، يدفع بطيعة الحال تلك الأنظمة هنا، للتخشب والتصلب والتحجر، خشية التحول والتغييرات، مهما مالت النخب السياسية الحاكمة - على فرض ميلها -، باتجاه الإصلاحات والتطورات الحضارية والإنسانية.

وواضح منطقياً هنا، في سياقات ذلك الحديث عن التفاؤل بالضغط الشعبي الكلاسيكي أو رفضه، أن الجرح الغائر في جسد أمة فيها الكثير من الغوغاء، يصعب بلا شك، أن يندمل باصلاحات شكلية، أو بتنازلات بسيطة وجزئية أو واقعية تصالحية، لا تطيح تماماً بالأنظمة القائمة تماماً، أو بالكثير من أجنحتها، وبالمصالح القائمة على مكوناتها وأفرادها، لصالح قوى جديدة تماماً، قد تقدم أطروحات دينية تقليدية أو بشرية مثالية - واعدة في البدايات، ومدمرة في حقيقتها في النهايات -، وذلك ضمن بيئات تسود فيها الأمية السياسية، وضمن بيئات إنغلاق وحالات إنفعال دينية أو لا دينية غير واعية، خصوصاً مع تسليمنا بما ذكرناه سابقاً من عدم نضج ورشد الشارع الشعبي الجماهيري المحكوم بالأيديولوجيات الدينية المتطرفة، التي تمثل قمة الرجعيات - البعيدة واقعاً، عن روح الدين الصحيحة -، التي تمتلك عجزاً واضحاً في قدرات التفكير السياسي، وغياباً واضحاً لوعي التفاوض عموماً - حتى مع قياداتها ورموزها ومكوناتها -، ووعي التفاوض مع الساسة، المخالفين والمنازعين والمختلفين خصوصاً.

ولهذا، فليس مرجحاً هنا، بناءً على ما سبق، أن تتجه حكومات غير ديمقراطية - مهما تنوعت بواعثها ونواياها ونزعاتها التصالحية أو الإصلاحية -، في مثل هذه المواقف والأوضاع والظروف، لإصلاحات ديمقراطية حقيقية واسعة وجذرية، تلامس مطالب ذلك الجمهور الطامح، في حين قد تؤدي تلك التنازلات غالباً أو في نهاية المطاف، للإطاحة بها، أو لإدخالها في مسارات مؤلمة وموجعة وغير متوقعة أو غير مدروسة، لا يعلم نهاياتها ولا مآلاتها إلا الله سبحانه.

لذا، فإن الجواب على سؤالنا الثاني هنا، والمتعلق بدور تلك الحكومات في ترميم الجراح، بهدف تعزيز حالة تواصل بناء بينها وبين شعوبها، لتجاوز واقع تواصل محدود مبتور وغير فاعل، بات معروفاً وواضحاً هنا تماماً، من خلال الأفكار المذكورة.

فذلك الأمل، في ظل الأوضاع الراهنة، قد لا يتجاوز، بل لن يتجاوز فعلاً، (الرغي) الفاضي، والثرثرات غير المجدية، أو الطموحات الساذجة.

ولذا، فلن يقودنا النقاش هنا في النهاية إلا للقول، بأن ذلك الدور الحكومي الرسمي الإيجابي في ظل الوضع الراهن، ضروري جداً ومطلوب بلا شك. لكنه، يحمل أيضاً في طياته ومعه - كما سبقت الإشارة - إشكالات وتهديدات واسعة لبقاء كيانات تلك الأنظمة السياسية القائمة، والتي لن تستسلم بالطبع لذلك بسهولة، كما يتصور البعض. خصوصاً في ظل، ما أشرنا له، من عقبات عدم نضج الشرائح الشعبية سياسياً بشكلٍ واسعٍ، وهو ما يتمثل في عدم قدرة الجماهير على إدراك قيمة التفاوضات السياسية، ومشروعية وضرورة الدخول في حلول جزئية، أو أنصاف حلول، أو تدرج في الحلول، والذي لازلنا نشير ونؤكد عليه باستمرار هنا، عله يصل لمن يهمه الأمر. ولذا، فالكلام هنا عن ذلك الدور، لن يتجاوز الثرثرات، ولن يعد طرحه هنا، إلا محض سراب وخيال وهرطقات، وأحلاماً رومانسيةً كاذبة.

وهنا، ستأتي النتيجة الصادمة للبعض أقلاً، وهي عجز كلا الطرفين المتفاوضين، النخب الإجتماعية - من جهة -، والنخبة السياسية الحاكمة - من الجهة الأخرى -، كما تعجز التوجهات الصدامية ونخبها في قبال النخب الحاكمة أكثر، في ميدان حل تركة إشكالات تاريخية وواقعية مصلحية ومعاصرة عميقة.

حيث لا يمكن هنا، ضمن هذا الواقع المعاش، وهذه الظروف الحياتية الحقيقية، الوصول لإصلاحات جذرية، ترضي الجمهور وتداوي جراحاته - من جهة -، وتكون في نفس الوقت واقعية متدرجة أو تصالحية مرحلية تراعي الظروف الراهنة، وتأخذ في الإعتبار طبيعة ونوعية ومكانة القوى ودوائر المصالح القائمة، وتحفظ للنخب السياسية الفعلية قدراً من قوتها ومصالحها الضرورية، على قواعد الشراكة المصلحية الواقعية - من الجهة الأخرى -.

ولذا هنا، فيجب التأكيد على ضرورة الرقي بالوعي والفكر والنضج السياسي الجماهيري الشعبي. حيث لا يجب ولن يصح، أن يبقى ذلك الوعي السياسي، ونضج التواصل والحوار والتصالح والشراكة والتقاسم، حكراً على، شريحة الوجهاء، والنخب والشرائح السياسية الشعبية - من جهة -، والشريحة الحاكمة - من الجهة الأخرى -، التي تعي قواعد اللعبة السياسية على حقيقتها جيداً. فذلك الدور التوعوي، هو ما يجب أن يبذل الغالي والرخيص، في سبيل القيام به، وتحقيقه. لأنه هو دعامة، والمعزز الحقيقي، لأي تواصل وحوار حقيقي واقعي وبناء.

وهنا، يمكن أن تتولد شراكة حقيقية بين النخبة الحاكمة والنخبة الوطنية المجتمعية الفاعلة سياسياً من أجل الإصلاح، على قاعدة مجتمع واعٍ واقعيٍ داعمٍ لذلك الحراك السياسي بين النخب، ومدرك بوعي لأبعاد ذلك التواصل، وظروفه ومتطلباته وأدواته، للعمل على ملفات الوطن بشكلٍ فاعلٍ، من خلال ربط تلك الملفات بملفات نشر الوعي والرشد السياسي - المتضمنة لثقافة التواصل، في قبال ثقافة القطيعة والتنافر، التي آن لها أن تنتهي، وفق منهجيات بعض من يتبناها من الأتباع الحاليين، بشكلها غير المرن والحاد -، وذلك بما يخدم في النهاية، رفع الهواجس وحماية الخطوط الأمنية المعقولة للفريق الحاكم، وأيضاً يعزز بناء إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي متدرج ومتوازن، ينهض بالوطن، ويوصله لمصاف الدول المتحضرة، التي تؤمن أقلاً بالقدر المعقول بالشروط الأساسية للعدالة والتنمية والإصلاح، فتتحقق بذلك آمال الجماهير ولو في حدها الأدنى، في ظل حفظ بعض مصالح النخب الحاكمة.

والخلاصة هنا هي: أنه لا غنى لأي تواصل سياسي نخبوي مع الحكومات الفعلية خصوصاً غير الديمقراطية عن تأييد واسع ضمن القواعد الشعبية.

وهذا الكلام هنا، ليس تبريراً ولا إتهاماً لأي طرف حاكماً كان أو محكوماً، وجماهيرياً كان أم نخبوياً. والإصلاح والعدل ورفع الظلم ... الخ، كلها بالطبع مطلوبة في كل الظروف. وليست بحاجة لقيدٍ أو شرطٍ.

لكن طبيعة الحياة البشرية، تؤكد ضرورة التصالحات الحقيقية، وضرورة إنبثاق مشاريع تبشير ثقافية سياسية تدعم التواصل والحلول الجزئية والتصالحية. كما تؤكد، ضرورة التدرج في الإصلاح، خصوصاً في الدول غير الديمقراطية، وفي المجتمعات التقليدية غير الواعية، الرافضة بشكلٍ مطلق وقاطع للتواصل، والجاهلة بالعمل السياسي وطبيعته، والدافعة بحماقة باتجاهات إقصاء النخب الحاكمة، التي أوصلها التاريخ والماضي، بكل ما فيه من إشكالات وحيثيات ومصالح وعورات، وفرضها الواقع بكل ما فيه من قوى وصراعات وتجاذبات.

إلا أن، الجماهير وبعض نخبها، لا تريد هنا، أن تنطلق من الواقع، ولا أن ترى الحاكم الفعلي، شريكاً لها، في ساحة صناعة القرار، ولا أن ترى مصالحه جزءً مما يمكن التفاوض على حفظه، ضمن أطر تعي تركة وإرث التاريخ، وواقع الحاضر، وتستشرف مآلات المستقبل، بحكمة ونضج ووعي، يضع مصالح الجميع وقواهم الفعلية فوق طاولة الواقع وفي بؤرة آلة الحل. وكأن تلك القوى الشعبية هنا، هي سيدة قرارها فعلاً، ممسكت حقيقةً بقبضاتها المتشتتة حقيقةً الواقع - لتعذر في ذلك، لقوتها -، فتندفع بغضب وعنف لفظي أو عملي وبجهل تام، لا يتكيء على قوة واقعية خارجية، سوى انتفاخها من الداخل بالأوهام والسراب، لرفضت شراكة الحل!!.

لكن، يبقى الحل الواقعي هنا ودائماً، رغم ذلك كله، شئنا أم أبينا، ماثلاً في توازنات القوى، وفي شراكة الحل، مهما تغاضى الكثيرون منا، عن الواقع المعاش وحيثياته وتوازناته، وعن طبيعة مصالح البشر، وطبيعة المجتمعات البشرية الدائمة وتجاذباتها.