لمى الروقي ... تكشف حقيقة مجتمع

فاجعة كلمة قليلة في حق ما جرى على الطفلة البريئة والمسكينة لمى الروقي وعائلتها وما ربما لا زال يجري عليهم. فلقد كان ما جرى في الحقيقة بالنسبة لمعظمنا إن لم يكن لكلنا أشبه بكابوس بل كابوسٌ حقيقي، وما أكثر الكوابيس التي لا يتوقعها البشر، مما يسهل جريان الأقدار المقدرة بها. ونحن في النهاية، نعلم ان قدر الله ماضٍ، لذا فلا مفر من أن نحتسب تلك الطفلة المسكينة البريئة عند الله، ونسأل الله لها الرحمة، ولأهلها الصبر والسلوان.

وهنا فلا بد أن نتذكر أن كل ترحٍ وفرحٍ في هذا العالم كما أن له تاريخ بداية فإن له أيضاً تاريخ نهاية. ومهما تعاملنا بعفوية وبساطة وجرينا خلف الآمال الواسعة في هذا العالم، فكل شيء هنا جائز وممكن أيضاً. وأهوال هذا العالم أعظم وأغرب وأقرب مما قد يتصوره الكثير من بني البشر. لكن أغلب البشر في الحقيقة غالباً، غافلون وغير متوقعون لتلك الأهوال والغرائب كما يبدو.

وقبل قصة الطفلة لمى التي تثير بعض ملاحظاتنا هنا، والتي عشنا معها الألم لأيام وأيامٍ ولازلنا، كانت هناك أيضاً حادثة مؤلمة أخرى، هي حادثة الطفلة المسكينة البريئة تقى الجشي (رحمها الله) وخلف على أهلها بالصبر والسلوان. فهي حادثة مؤلمة أخرى شغلتنا لأيام وأيامٍ وجثمت على أنفاسنا وفوق صدورنا، ولم تكد تختفي، أو يخف حضورها الإعلامي والذهني والنفسي، حتى جاءت الحادثة الأخرى، والفاجعة التالية.

وتلك القصص المؤلمة تتوالى وتتتابع وتحدث هنا وهناك باستمرار في هذه الحياة، وهي سنة الله في الأرض ماضية. وواجب الجميع هنا، هو أخذ العبرة والحيطة والحذر ومحاولة تقديم النصح وصناعة التغيير والتطوير الإيجابي باتجاه ما يحمي جميع بني البشر من إحتمالات وقوع تلك المآسي مستقبلاً ... خصوصاً على الضعفاء والأبرياء منهم.

ونحن لا نستطيع أن ننهي المعاناة والأحزان والمآسي على كرتنا الأرضية بالتأكيد بشكلٍ تامٍ، ولن تفيدنا أمنية، لكن بالطبع يمكننا أن نعمل بجدٍ كدعاة خيرٍ وصناع سلام، وكمنقذين للحب والرحمة والسعادة على هذه الكرة الأرضية، وأن نخفف آلام البشر على أقل تقدير ... وهي أقل رسالة يقوم بها الواحد منا ليشعر بالرضى النفسي والذهني حقاً عن إنسانيته.

وعلى جانبٍ آخر، فيمكن الحديث هنا عن تلك الزوبعة من المقولات والشائعات والأخبار والتلفيقات والتخرصات الكثيرة والهرج والمرج غير المنضبط، والتي أحاطت جميعها بحادثة لمى الروقي، فخلطت الحابل بالنابل، في قصة واضحة ومعروفة لطفلة مسكينة سقطت في بئرٍ عميق بشكلٍ مأساوي، وجرى السعي المضني في البحث عن سبيلٍ لإخراجها عبر الأجهزة الرسمية، وفي زمن الإعلام المفتوح، لكن مع ذلك حضرت شائعات المجتمع في حادثتها بشكلٍ قوي ومكثف.

فأي مجتمعٍ هذا، الذي نتحدث عنه؟! وهل هكذا هي كل المجتمعات البشرية، دائماً؟!!!.

في اللحظة التي جمعتنا فيها مع آخرين قد نختلف معهم في دولة أو منطقة أو مذهب أو توجه أو تيار أو دين ... الخ، عاطفتنا الإنسانية النقية، التي تجمعنا نحن البشر جميعاً، والتي تشكل هويتنا الجوهرية الحقيقية الواحدة، وجمعتنا تلك الرحمة التي أودعها الله في قلوبنا، فجعلتنا جميعاً نتجمع حول منابع الأخبار، فنتابع تلك الحادثة بلهفة على الفتاة، علها تخرج حية وتنجو بإذن الله، فنفرح ويفرح أهلها وذووها، شاهدنا أيضاً، وسط الساعات واللحظات الصعبة، من يخترع الإشاعات ومن يبتكر الأكاذيب، ومن يجر التهم لوالدها، ومن يستظرف ويستسخف ويهرج، ومن يلعب بالعواطف الحزينة بلا مبالاة، أو برغبة فقط في تجميع أتباع في تويتر أو غيره، كل هذا فوق السخافات والسذاجات الأخرى، التي تعري كثيراً من صحاري عقولنا، بعد أن عرى غيرها من الهرج السالف، تصحر قلوبنا وعواطفنا وإنسانيتنا.

فإذا كان المجتمع البشري يعبر عن نفسه هكذا، في مأساة طفلة صغيرة بريئة مسكينة، يجب أن يقف الإنسان أمامها باحترام وإجلال متنزها عن ما لا يليق بالحادثة من الكلام، وحيث لا تتعارض ولا تتضارب ولا تتناقض غالباً مصالح أبناء المجتمع هنا، فكيف سيعبر مجتمعنا هذا نفسه عن نفسه عندما يتنازع لتقاسم كعكة كبيرة (مثلاً)، يسيل لها اللعاب، ويصعب أن يقف عندها الكثيرون على الحياد، خصوصاً حين يتحول الصراع والتنافس والتقاسم هنا، لمسألة موتٍ أو حياة.

إنني أدعو الجميع للتفكر والتعقل، ولأخذ العبرة من هذه الحادثة ومن كل الحوادث الجارية، ولقراءة واقع المجتمع البشري بجدية، من خلال المعطيات الحقيقية الواقعية، لمعرفة ما يخبئه هذا الفانوس السحري المتمظهر في السلم والتعاون والتعايش المجتمعي السطحي، الذي يحجم الصراعات فيظهرها بأقل من حجمها الواقعي، والذي تختبيء فيه نوازع المجتمع. كي لا يصاب أبناء المجتمع بسبب التفاؤل المفرط والتوقعات الخاطئة في مقتلٍ عند أبسط إختلافٍ قد يتحرك بعد رفع بعض العناوين البراقة، ثم لا يمكن بعدها هناك الفرار.

فرغم وجود الطيبين والخيرين في كل مجتمع بشريٍ على هذه المعمورة، والذين ينشدون الخير والإصلاح والصلاح، لكن تبقى الأنفس الدنيئة والمستهترة والسخيفة والمتوحشة والشريرة حاضرة أيضاً، وربما يكون أغلبها غالباً محصوراً تحت الرماد. لذا فربما لا يظهرها للسطح ولا يكشفها إلا مارد إنهيار عظيم غير محسوبٍ لتلك التوازنات المجتمعية القائمة، كذلك الإنهيار الذي حصل في بعض الدول العربية ساعة أغفل الناس حقيقة مجتمعاتهم وجنحوا لتحقيق الأمنيات والأحلام غير الميسورة دون روية ودون تأملاتٍ فاستبدلوا بالتوازنات القائمة الفتن ... كفانا الله وإياكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.