الخطاب الديني والانسلاخ من الهوية

تكون الحاجة للخطاب الديني المحرك لتغييرات إيجابية في المجتمع؛ حينما يدور حول أسس قويمة قيمية تعزز هوية هذا المجتمع في نفس أفراده، وتحقق الارتقاء الذاتي الدافع لتكوين الهدف النوعي والمناعة المستقاة من هذا الخطاب، فمن جانب ما تمر به القطيف من تذبذب مضطرب من ناحية توافر الحاجة التنموية والحاجة الأمنية، يرجع ذلك للخطاب الديني المرسخ في تلك الأفئدة. فماهو الخطاب المفقود في المنبر الحسيني لكي يعاد للقطيف صمودها واكتفاءها الذاتي، وهل هنالك إمكانية معتبرة يقف عليها هذا الخطاب ويحذو حذوها؟، ماهي أسباب الاضطراب في ملامح القطيف؟. لعلني أعاتب هنا قليلاً وأملي من أن يكون خطابي لا يحمل إلا نبرة الاحترام والتبجيل، رغبة في أن يبدأ رجال الدين في إصلاح هذه الأرض وحضارتها. "إن هدف الدين هو العدل الإجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم" كما يقول علي وردي.

تتجسد عوامل انسلاخ الهوية من المجتمع القطيفي في عاملين رئيسيين، فأولاً إن كل جهة حاكمة تحاول تعزيز معالم هويتها التي انطلقت منها، من الطبيعي أن يكون ذلك من خلال الروافد الثقافية أو الإعلامية، وهو ما تدل عليها بوادر (تنجيد الهوية) وهذا العامل قد عمم على أغلب المجتمعات في مناطق الجزيرة العربية ولكن تلك المجتمعات انتبهت لبوادر الانسلاخ هذه، فانتفضت من محاولات مسخ هويتها الأصيلة عبر برامج ومنابر وعي لتعزيزها.

إن الصحوة الدينية في المجتمع القطيفي في سنة 1400هـ تعتبر العامل الثاني لانسلاخ الهوية حيث أدت إلى الافراط في تعزيز الهوية الدينية والمذهبية وتفريط كامل بل نسيان للهوية الاجتماعية، مع العلم بأنه لا يوجد أي تضارب بينهما إلا أن رجال الدين كان أغلبهم فاقداً لذلك الوعي ونعني أهمية الهوية الاجتماعية حيث كانت ثقافتهم محدودة إن لم تكن منعدمة. وهنا يأتي دور المثقفين ورواد الثقافة للقيام بدور بث وتعزيز الهوية التاريخية والثقافية والاجتماعية بكل ما تحمله من معالم. فترى الإنسان القطيفي يعي بتفاصيل التفاصيل فيما يخص المذهب ولكن لا يدري حتى ما هي أبجديات تاريخ أرضه أو الشيء اليسير من تقاليده وأعرافه وملامح هويته من ملبس أو تراث. على الرغم أنه ليس هنالك أي تناقض بين الهوية الدينية والهوية الاجتماعية، فترى رجل الدين الفارسي لا ينسى موروثاته الاجتماعية او الثقافية كيوم النوروز والزي وغيرها من الموروثات الشعبية من طقوس وعادات وتقاليد.

وهنالك نظرية في علم الاجتماع تثبت أن المجتمعات الأقل تقدماً تقلد وتتقمص هوية المجتمعات الأكثر تطوراً وتحضراً. ولكن في القطيف انقلبت تلك النظرية، فالكل يعرف بأن القطيف وأهلها منطلقين من إرث حضاري وتاريخي عميق، وتعتبر القطيف هي الوحيدة في الساحل الشرقي ذات الطابع المدني كحاضرة مدنية وأما غيرها فكانت إما هجرة أو تأخذ طابع البداوة، وكان ذلك حتى وقت قريب. فكانت هي المتبوعة وغيرها تابع لها في ملامح الهوية بل حتى الطقوس والعادات الاجتماعية استنسخت منها نتيجة النظرية الآنفة الذكر، ومثال على ذلك وليس للحصر (قريقشون ، الأهازيج الشعبية الخاصة بالمجتمع القطيفي وغيرها) فترى اليوم الانسان القطيفي بدأ ينسلخ من لهجته وزيه وعاداته وتقاليده ولا يسع المقام ذكر باقي معالم الانسلاخ.

الخطاب المنبري يغيب الحقوق الإنسانية وتعزيز الهوية الإجتماعية وذلك عند أغلب الخطباء. وهي دعوة  لتحقيق الوعي النفسي لدى المجتمع بتعريف أصله ومجده وقيمه في الأرض التي ينتمي إليها وحاجاته عليها، ليصنع الخطاب مجتمع ذو نباهة يعي كل فرد فيه بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي له وعلاقة هذا الفرد به وبأبناء شعبه والشعور بانضمامه وارتباطه كرائد أو قائد، فكيف يحقق المجتمع الأمن لنفسه وهو لا يحاول التوجه لتحقيق الاكتفاء الذاتي على أرضه، والابتعاد عن التحزبات والتيارات، بالدعوة إلى التكاتف ومعرفة ما له وما عليه من حقوق اتجاه أرضه، والتعاون الأهلي لقيام الحضارة وهي التي يدعو ويقوم بها ولاة الدين في إيران ولبنان، ما أنتجه وعظ آية الله الإمام الخميني (قده) والسيد حسن نصرالله حفظه الله من مجتمع ذو مناعة حقوقية ونباهة اجتماعية. فيعد المنبر الحسيني مصدر ثقافة أساسي في مجتمع القطيف ضمن منظومة الينابيع الثقافية فيه، فكان من الأحرى أن يكون هو الوسيلة للتحذير من خطر الانسلاخ من الهوية الكائن.

لا يقتصر دور رجل الدين على الوعظ الديني والسياسي. فنرى علامات تفتت الهوية الاجتماعية في مجتمع القطيف، والذي على اعتبار أنهم يرجعون لحضارات متقدمة، باتوا اليوم مجتمعاً مستهلك بعد أن كان منتج على مستوى دولته وقبل قيامها، كما صار مجتمعاً مقلداً في لهجته ولباسه وعاداته، مجتمع مستنسخ يرضى بما لديه من خدمات وحاجات تنموية، يرضى بالترحال والغربة، ينظر لمن هم دونه ويقنع بما لديه، تلك القناعة التي تكاسلوا بها عن التحرك، ويتأثر بثقافة الشكر المزيفة، وما هي إلا فلسفة العجز، والتي لا ترجع للدين الصادق الذي هو عبارة عن دراية الانسان ووقوفه على قيمه ومعرفته بالنعم والمواهب الموجودة لديه، الشكر الذي به يكتفون بما لديهم ويشكرون به الدولة إذا أعطتهم حقوقهم. فلماذا لا نجد الوعظ الذي اكتفت به الأمة في عهد الإمام علي ، والحضارة التي قامت بها الهند في زمن غاندي.

المنبر الحسيني يحتاج للحداثة وعصرنة الوعظ بمواطنة الفرد مع أرضه. الأمم من حولنا تتقدم وتكتفي وتتعلم وترتقي، وتساؤلي الكبير هنا، هل إذا عادت القطيف بحضاراتها المنسية لتلك القيم المفقودة، وبتلك الدراية الاجتماعية بمعرفة أصلها وعمقها الحضاري وقامت من ذلك الثقب الأسود الذي يسحبها معه، هل ستواصل النظر بمن حولها من مدن طابعها الأصل هو البادية والترحال، وتستمر في استنساخ التصحر الكائن فيهم وتقليد هويتهم ومعتقداتهم واستهلاك واستيراد ما يشبه ثرواتها الضائعة والانتفاض ثم الانتفاض للمذهب دون الالتفات للقضية الأهم؟؟!، القطيف ما بقي التشيع فيها إلا بمرتكزات البقاء، مصادر الثروات الطبيعية، والعمق الحضاري والتاريخي وما تحمله من آثار، وثالثها أنها حاضرة مدنية، ويشهد بذلك كتب التاريخ على ما واجهته من وقائع ومعارك وهي ليست محل الطرح هنا، فتعزيز دراية المجتمع بها يعزز لمس الفارق بين الأمس واليوم فيبين حجم الظليمة الواقعة عليها، ويدفع للتحرك بإعمار الأرض وحضارتها، والتمسك بما فيها من خير وثروة، وبالالتفات إلى أن الدراية متكونة لدى المتأثرين بتقلب حال القطيف من جيل السبعينات والأكبر عمراً منهم فأما الجيل الأصغر فعلامات انسلاخ الهوية واضحة فيهم. فهل يكتفي رجل الدين بمعالجة الوضع المضطرب في أمن الأرض ويتناسى أن هذا المتعظ بخطابه بعيدٌ عن أرضه كل البعد؟.

ونقول أن هنالك نماذج من رجال الدين بالقطيف تعمر خطاب الدراية الاجتماعية في المنبر بكثافة، وهي لا تفوق عدد أصابع الكف الواحدة، فتدعو للوعي الاجتماعي والحقوقي، هذا الخطاب بمثابة علاج الضعف الكائن والذي صارت تتراجع القطيف بسبب غيابه. إن دور الواعظ في تكوين الخطاب وبثه لا يصعب على الإنسان الباحث فهاهي رابطة المنبر الحسيني تقوم على تقويم خطاب المنبر، وفي يوم الخطيب الحسيني أوجه مقالي هذا إن البيئة والهوية والآثار والحضارة تحتاج من رجل الدين أن ينبه المجتمع إلى أنها مرتبطة بالشرع ولها في النظام الإسلامي شأن مهم لا يقل أهمية عن الأصول الدينية.