المرآة

يحكى عن طفل ولد في أحد الأزمة.. كبر الطفل قليلا.. أدرك أن هذه المرأة الجالسة بجانبه هي والدته.. وذاك الرجل الذي يأتي عادة بعد ساعات من استيقاظه هو والده.. وبالنسبة له هما دائما «بابا» و«ماما».

أحيانا.. حين يصبح وحيدا.. يسمع صوت لحن حزين لا يعلم مصدره.. ولكن لسبب ما.. فإن اللحن يحرك في نفسه شعورا لا يستطيع وصفه.. في الحقيقة لم يعلم بعد كيف يمكنه الوصف.. لكنه كان يحن لهذ الشعور.

ذات مرة وقف أمام المرآة.. حدق فيها بتركيز عميق.. شخص آخر يقبع وراء الزجاج لم يعتد مشاهدته.. يقلد حركاته وسكناته بتزامن دقيق.. «إذن هذا أنا ».. دائما ما عاين عالمه الصغير من خلال عينيه.. عيناه التي ترى كل شيء.. عداه هو!!

"ولكن من أنا؟!

ولم أنا هنا؟!

ماذا لو لم أوجد؟!.. أو يوجد والداي؟!.. ماهو الوجود في نهاية المطاف؟

كيف خلقت؟! كيف كان الكون قبل الخلق؟!.. " وهكذا تتوالى عشرات الأسئلة عليه كلما رأى المرآة.. توقعه في حيرة ما يلبث أن يستسلم بعدها ويغط في سبات طويل.

عاود اللحن الحزين زيارة سمعه كل ليلة.. الغريب أن وقت الزيارة يتلوا

ساعة إطفاء الأنوار وهدوء الخلائق.. أما المرآة.. فلا بد من أن يتأمل كلما مر بجانبها.. لايملك خيارا سوى الوقوع في جاذبيتها.. حتى يغرق في بحر أسئلته.

اليوم هو يومه الأول في المدرسة.. يمسك يد والده بقوة متجهين لبوابة المدرسة لأول مرة في حياته.. الكثير من الصبية يشاطرونه نفس الطريق.. القلق يتصاعد مع كل خطوة.. «هذا هو معلمك يابني.. كن مهذبا كما عهدتك.. اعتن بولدي جيدا أيها الأستاذ الفاضل » أفلت الأب يده وذهب مسرعا.. لم تمض لحظات حتى أجهش الطفل بالبكاء

«أماه لقد عدت »

انطلق يشرح لأمه ماجرى طوال اليوم بحماس منقطع النظير.. بدءا من تعرفه زملاء جدد.. مرورا بالألعاب اللتي لعبها مع أستاذه المستقبلي.. ونهاية بعودته مع قريب له.. الأم تنصت له وقسمات الفرح بادية على وجهها لسعادة فلذة كبدها.. هذه المرة نام قبل أن يسامر مرآته بوح الأفكار.

«ماجد أحمد.. حاضر » ماجد هو اسمه الذي ولد معه ولازمه.. هو لم يختره.. بل اختير له.. سحر ماجد بحياته الجديدة.. لقد تعلم أشياء وأشياء.. تعلم أن هنالك حاكمًا يحكمه.. هو لا يعرفه ولكن كل مزايا الخصال فيه.. تعلم أنه يجب طاعة هذا الزعيم.. ليس مهما رأيك في ماتتعلم أو حكمك لما تتعلم.. بل حفظك لما تتعلم.. ماتتعلمه هو الحقيقة المطلقة.. مر ماجد بمرآته.. لم تراوده أية أسئلة.. فقط تمنى أن تستمر سعادته.

المرآة وحدها من تدفعه للتفكير.. تساءل يوما.. كيف سأصبح إذا كبرت... لا أريد أن أصبح أسوأ.. أو أقبح.. ماذا سأكون.. طبيبا أعالج المرضى بلا مقابل.. لالا.. شرطيا أحمي وطني من الأعداء.. ليس مهما الآن.. سأهتم بمدرستي وحياتي.

ابتعد ماجد شيئا فشيئا عن مرآته.. أصبح يفضي إليها أسراره كل يومين أو ثلاثة.. كبر قليلا فاتسعت المدة لأسبوع.. وحدث أن كسر صحنا ذو قيمة عن طريق الخطأ.. هرعت الأم لتسأل عن الفاعل.. خاف بشدة.. اتهم ابن صديقتها الصغير.. هدأت أمه وزال خوفه..

لطالما علم أن الكذب حرام.. لأول مرة.. ينام وهو مقضوض المضجع.. كانت تلك خطئيته الأولى.. التي أخرجته من جنة البراءة إلى العالم الذي يخافه

مضت الأيام وهجر ماجد مرآته المسكينة.. خبأها في المستودع.. متفرغا لمشاغل الحياة.. يهم بالدراسة لأجل الشهادة.. لا يعلم الشهادة لماذا.. وضع في قالب أريد له فأعجبه..

كون أصدقاء ثم فارقهم.. ثم صالحهم.. فخاصمهم.. فكون غيرهم

انتمى لجماعة.. هاجم أخرى.. تبنى أفكارا ونسي التفكير.. قاسى لوعة الحب.. تزوج من فتاة لم يرها.. أصبح يلهث وراء المال.. ثم وراء الصحة..

هكذا مرت سنوات ماجد مسرعة.. لم تتح له الوقت ليجيب على أسئلته.. أو ليكون كما أراد.. لقد شاهد قطار الحياة وركبه دون أن يتوقف..

ماجد على فراش المرض.. تجاوز السبعين من عمره.. فقد قدرته على الحديث.. ينتظر الموت.. في إحدى الليالي خطر بباله ما إذا كانت حياته التي عاشها تستحق.. تذكر ماضيه كأنه شريط يمر أمام عينه.. تذكر أنه لم يصبح طبيبا ولا شرطيا.. تذكر أن الزعيم ذو الخصال اللانهائية لازال حاكمًا عليه ولم يفكر يوما فيما إذا أراد حاكما غيره.. تذكر أنه لم يعد لآخرته كما ينبغي.. تذكر أنه لم يكن هو.. لحظات وغفا ماجد.. في المنام رأى مشهد مرآة وقد أغلقت بستائر مصحوبا بلحن حزين.. يتبادر لذهنه أنه يعرف هذا اللحن.. ولكن متى سمعه.. استيقظ فزعا.. تناول عكازته وهو يهرول للخزانة.. مفاتيح قديمة بداخل علبة سوداء.. مشى بضع خطوات.. فتح المستودع القديم.. يبحث عن ذكرى مدفونة بين الأنقاض.. وجدها وعليها غبار كثيف.. أراد أن يصرخ فرحا م استطاع.. مسحها بكميه.. حدق بعمق.. «من أنا ».. لم تنعكس صورته في المرآة الصغيرة.. لم تنعكس.. جلس في زاوية المستودع.. وهو يئن.. ويئن.. ولا زال يئن حتى توفي ودفن مع مرآته.

تقول الأساطير أنه في كل ليلة حينما يغفوا الناس يتعالى صوت أنين ماجد مكونا لحنا حزينا يغمر الأرض برمتها.. لا اصدق الأساطير

ولكن ما أعلمه أكثر من اي كائن في الوجود

أني سمعت ذلك اللحن الحزين..

حينما كنت طفلا... طفلا