مونولوج الغِرّ الفقير

أجبني.. أوَ يستحيلُ العرضُ جوهرًا؟

ها أنا أعيدُ استكشاف نفسي.. علّني أنفضُ رداءً لا يلائمُ أقيستي

تمهل.. فلستُ أهجرُك.. للتو تبدّى الأمر جليًّا.. أنا فقط

مختلف..

حسنًا.. الكلمات تخذلني.. لا أعرف كيف أصيغها بطريقةٍ لبقة.. أظنكَ لا تنتمي إليّ.. أو العكس.. لا يهم.. أدركتَ ما أعني.. أليس كذلك؟

رُويدكَ.. لا تستعجلني.. أعي ماتريد قوله: نحن واحد.. لكن كلّا.. لطالما حسِبتُ ذلكَ أيضًا.. لكننا غريبان حدث واجتمعا في بقعةٍ واحدة لا أكثر.. وقد آن أن ننفصل..

وقعُ حديثي يؤلمُ مسامعك.. هذا طبيعي.. لكن أنصت.. إنها الحقيقة..

الألم مرحلة ضرورية.. لا ولادة بلا ألم.. ولا حياة بلا ولادة

كيف لم يتسنى لك الإدراك قبلًا.. أنا لا أشبهك.. أنتَ وأنا على طرفي نقيض.. المَلكةُ وعدمُها.. لقد تلبستني زمنًا طويلًا.. طويلًا حتى بِتَّ تُدعى «أنا».. ولكن على سبيل المجاز..

هُراء!.. عجبًا.. كلامي أضحى الآن ضبابيًّا ومحضَ هراء.. أَ ترى.. أنتَ أنت.. تنجرُّ خلفَ انفعالاتك بسذاجة مضحكة.. ضَيق الأفقِ قليل الحيلة.. دعني أُفكِّكُ المفاهيمَ قليلًا كي تتضح لك.. هل لكَ أن تنظرَ ناحية ذاك العجوز.. أجل من تعلوه عمامةٌ مسدلٌ بعضها.. تأمل في من يتجمهرون حوله.. ترتسم في وجوههم تلكَ النظرةُ البلهاء.. هو يخطبُ فيهم بينما يطأطئون رؤوسهم مبتسمين.. الرمال المتحركة تسحبهم شيئًا فشيئًا نحوَ القاع السحيق.. ولا زالوا مبتسمين..

والآن.. ألست تتوق كي تنضمّ إليهم.. كما جرت العادة.. تظنُّ أن ذلك الطقس الروحاني سيجلب لك الطمأنية.. والمعرفة.. والسعادة..

أخبرني.. هل امتلكناهم يومًا؟

تخلص من وهمِك.. كلُّ ما أشعر به هناك هو الخُواء.. والرمال تنهش في جسدي.. ولا تشبع..

أتعلم ما يؤنسُ روحي حقًّا.. لاشيء سوى الجَمال.. ومالجمال سوى الموسيقى.. إني أسمع صوت الإله في الموسيقى.. وأرى أثره في الفن.. وأحسبني أخاطبه حين أغني.. سمني ماشئت.. عربيدًا أو ماديًّا.. المنغمس في ملذاته الدونية.. فلا شيء تجيده أكثر من إطلاق الألقاب والنعوت كي تبني بُرجكَ العاجي الذي يرتفعُ للأسفل.. هل تجليتَ يومًا أيها الزاهد الصوفي المنعزل عن الجَمال.. هل سمعتَ صوت الإله كما أسمعهُ أنا..

مالك لا تجيب.. وأنتَ من تؤمنُ بالأجوبة المعلبة وتحفظها عن ظهر قلب.. سأفضي لك بسرٍّ آخرَ عني.. أنا مؤمن.. أجل مؤمنٌ بأن أجوبتك هي الهراء الفعلي.. ليس الأمر وكأني أتبع غرائزي.. أستطيع أن أحاجك في ماشئت.. قليل من العقل يكفي لهزيمتك.. لكنك نادرًا ما تقتنع.. أجوبتك تحملُ من التناقضات في ذاتها ما يجعلها قاب قوسين من السقوط..

أعترفُ أنك تحظى بميزةٍ عليّ.. طمأنينتك الواهية.. هيَ ملاذٌ حصين.. أما أنا فلا أدري إن كنت سأجد في العِلّةِ دواءً لقلقيَ المزمن.. قد أصل.. أو لا أصل أبدًا.. في كل الأحوال الأمرُ أهونُ من أن أتخلّلَ في مرطبانٍ مُزخرف..

لا يتأتى الإرتقاء يا رفيقي بالتوصيف والتنصيف.. الألفاظ في جوهرها محايدة.. قيمتها بالدلالات اللتي تحملها.. ماذا يعني أن تكون مثلًا من أهل اليمين.. هي الطرائق شتى.. والبشر شتات.. رغم أننا دائمًا مانمشي على الجانبِ الأيمن من الجادة.. إلّا أنني أهوى السير على الطريق اليسار.. اليسارُ بهِ فضاءاتٌ أرحب.. ولا أخال اليمينَ الضيقَ يسَعُنا جميعًا.. لماذا تهوى المُضيَّ وحدَك؟

أعلم أني أمطرتكُ بوابلٍ من الأسئلة.. إنها ذات الأسئلة التي أغلقت عينك عنها مرارًا.. الوجودية أن نبحث عن الحقيقة في ذواتنا.. ذواتنا ماهيةُ الحقيقة وشكلها.. أردت فقط أن أبينَ لك بُعد المسافة بيننا.. أكاد لا أراك.. أنا لا أكن الضغينة نحوك.. أنا الحب.. سأظل أحبك وإن لم نلتقِ في أي نقطة من هذا المدار.. بعد كل شيء أنت بعضيَ المخبوء عميقًا..

كنتُ لأغادرك عاجلًا أم آجلًا.. لا تختلق الأعذار.. المكان والزمان عقدتا حبلٍ لا الحبلُ نفسه.. ما كنتُ لأهربَ من لعنتي.. وما كان لأوديب أن يهربُ من نبوءته.. هي الأقدار حتميةُ حدوثها.. عصيةٌ على البداء..

كما أعلنتُ بداية حديثنا المتشظي.. لن أهجرك.. وسنفتأُ نتصارع.. ما أنا وأنت إلا امتداد لجدل الثنائيات الضارب في جذور القدم.. بين الكلاسيكة والحداثة.. بين المثالية والواقعية.. بين التدين والإنفتاح.. بين الملائكة والشياطين.. أنا وأنت وجهان لعملة واحدة..

لا تبحث عن منطقة وسطى.. الوسطية تشوهٌ خارج إطار الصورة.. عبثية تروم اللإتساق في اللا متسق.. وخيالٌ رخيص..

والآن أجبني.. أوَ يستحيلُ العرضُ جوهرًا؟