المحاضرون وتجارة الوهم

لا شك أنك صادفت - عزيزي القارئ - يومًا إعلانًا من قبيل «تعلم أسس النجاح مع المدرب العالمي.. » أو« مهارات العلاج باستخدام الريكي مع الماستر.. » أو « كيف تكون كاتبًا مبدعًا مع الكاتب.. » وغيرها من العبارات البراقة التي يُسَوّقُ بها رُوّاد مجال تقديم الدورات أنفسهم. حيث أصبحت الدورات المتنوعة منتشرة ولها جمهورها.. وأضحى تقديم دورة ما فنّ من لا فنّ له وتجارة من لا تجارة له. إذا كنت ممن ينجذبون بسهولة لهكذا إعلانات وتطمح نحو النتائج السريعة فلا تقع في الفخ بتبذير أموالك على أمور لا طائل منها.

سأضع في هذا المقال الدورات بشقيها «دورات التنمية اللغوية العصبية والطاقة» و«الدورات والورشات التدريبية للمهارات العملية كالتصوير والكتابة» على طاولة التشريح لنرى ما إذا كانت تحوي فائدة معتبرة لمرتاديها وتستحق المبالغ المدفوعة فيها.

أولا: دورات التنمية اللغوية والطاقة:

١ - علم زائف «PseudoScience»:

تعود نشأة علم البرمجة اللغوية العصبية إلى الأمريكيين جون غريندر وريتشارد باندلر اللذان جمعا الأساليب والطرق التي يتبعها الناجحين وحاولا نمذجتها ومحاكاتها بحيث يمكن تدريب العقل وبرمجته بهذه الوسائل كي يستطيع أي فرد الوصول لنفس المراتب التي يصلها الناجحين. من ثم قاما بالترويج لنتائجهم وبيعها على الناس حتى وصل نظام تقديم المعلومة إلى صيغته الحالية واشتمل على تكنيكات مأخوذة من علم النفس ومجالات أوسع يقوم المحاضر بالحديث عنها.

العلوم تقوم على مناهج من خلالها يُبنى العلم، العلوم الرياضية تقوم على الضروريات والبديهيات والإستنباط.. العلوم الطبيعية تعتمد على الملاحظة والتجربة والاستقراء.. أما العلوم الإجتماعية فهي ترتكز على المنهجين التاريخي والإحصائي. ما عدا ذلك من العلوم التي ينقصها المنهج فهي تعتبر من العلم الزائف. نجد في حالة علم البرمجة العصبية أنه يدعي صفة العلمية عبر إضافة صبغة علمية لمحتواه والإستشهاد بهذا وذاك من علم النفس وتجارب الناجحين. مع ذلك لا يعدو كونه أكثر من وعود وإطلاقات يحتاج كثير منها للتدعيم ببحوث وأغلبها دحضت من خلال بحوث موجودة. ذات المسألة تنطبق على بقية العلوم الزائفة التي يروج لها هؤلاء المحاضرين كعلم الـ «Graphology» «علم تحديد الشخصية من خلال خط اليد» وعلم الـ Personology «علم قراءة الوجه» وغيرها من العلوم التي تُدرَس في يومٍ وليلة. أما في حالة علم الطاقة فالأمر أدهى وأمر.. لا توجد صبغة علمية تحيط به حتى.. فمباحث علم الطاقة تسير في دائرة الميتافيزيقا الغير قابلة للقياس العلمي.. فإن سلمت جدلًا بوجود نتائج للقوى الميتافيزيقية فيستحيل أن تعرف من المصيب منها والمخطئ في ظل كثرة من يدعون امتلاك القوى الروحانية والماوراء طبيعية. استعراضي للجانب العلمي هدفه تبيان موثوقية هذه العلوم الزائفة.. العلم يعطيك درجة ثقة بما توصل له من نتائج.. لكن مع هذه العلوم فأنت كمن يقامر في شيء مجهول النتيجة.

٢ - احتيال تجاري:

بعيدًا عن علمية محتوى هذه الدورات، يمكنني أن أصف الطريقة التي تقام بها بالعملية التجارية البحتة. سعر الدورات يتراوح من مئتي ريال إلى أن يصل حتى ستة آلاف ريال أو أكثر. لو افترضنا أن سعر الدور المعتاد هو ٥٠٠ ريال للفرد «وذلك أضعف اللإيمان، فهي في المعتاد أعلى بكثير» وحضر الدورة عشرون شخصًا.. فسيحصل المحاضر على ما مجموعه عشرة آلاف ريال! أي سيحصل على أكثر من الراتب الأساسي لمهندسٍ تخرج توًّا في ما مقداره ليلتان أو حتى أسبوع في أسوأ الأحوال. طبعًا لم يحصل عليه لكونه علامة زمانه في أحد العلوم النادرة.. بل لأنه حضر هذه الدورة قبلًا وأصبحت لديه شهادة معتمدة. وعلى ذكر كلمة « معتمدة» التي تضفي شيئًا من المصداقية والقوة في إنجازات المحاضر العظيمة، فقد قررت أن أبحث عن الجهات التي تعتمد هذه الشهادات وآلية الإعتماد. على سبيل المثال « المركز الكندي للتنمية البشرية» و«هيئة البورد الدولي للبرمجة اللغوية العصبية» وما أُلتُ إليه أنها مراكز تجارية بحتة أيضًا ولكن بأسماء رنانة. المركز الكندي أنشأه إبراهيم الفقي ومكانه مصر وليس كندا على سبيل المثال. هذه المراكز مكونة من مدربين أيضًا يقومون بتدريب الشخص بمقابل ألفين ريال أو أكثر ثم يصدرون شهادة له «معتمدة» من مركزهم تخوله أن يدرب بها أو قد يستطيع أيضًا إصدار شهادة لمن يدربهم مستقبلًا من نفس المركز دون الرجوع للمركز نفسه والدراسة هناك. إذن لكي تكون محاضرًا أو مدربًا أو ماستَر طاقة ماعليك إلا أن تدفعَ بداية وتحضر بعد الدورات ثم ماعليك إلا أن تبدأ مشروعك الخاص وتعيد تعليمَ جميع ما تعلمته في هذه الأيام التي أجزم أنها لن تصل إلى سنة دراسية واحدة. بالطبع لا تنسى أن تظهر قائمة إنجازاتك من الشهادات والمراكز المعتمدة التي حصلت عليها بفضل عملك الشاق. ألم تلاحظ يومًا كيف أن هؤلاء المدربين لديهم نفس عناوين الدورات من «قبعات ست» و«هندسة النجاح» و«TOT» وما إلى ذلك من الأشياء التي تستطيع القراءة عنها في خمس دقائق بينما قد يكلفك حضور دورة ما مبلغًا وقدره. في الحقيقية أيًّا كان يستطيع أن يكون مدربًا، فالمسألة لاتحتاج موهبة أو جهدًا كبيرين.. قليل من المال يكفي لكي تبدأ مشروعك الخاص وتكونَ «ناجحًا».

وكأحد أمثلة الإحتيال التجاري فأذكرأنه حينما كنت مهتمًا يومًا بما يدعى علم الطاقة أن أحد «الماسترز» كان يقدم دورة في «الريكي» «العلاج بالطاقة»، فلما سُئلَ عن سعر الدورة أجاب بـ ١٥٠٠ ريال لثلاث ليالٍ!!

٣ - واقعية الهدف:

أغلب هذه الدورات توهمك بأنها قادرة على أن تصنع منك قائدًا أو ناجحًا أو ربما أن تعالج الناس عن بعد وتملك قوة وقدرات خارقة. من منا لا يحلم بامتلاك صفات وقدرات كهذه. يسارع الكثير بالتسجيل في هذه الدورات ظنًّا منه أنه النجاح سيحالفه في ليلةٍ وضحاها أو ستتحسن حياته ويبدو شخصًا أسعد.. أحلامٌ كهذه لا تقدر بثمن فمالمانع من إنفاقِ الكثير في سبيل الحصول عليها. حسنًا، دعني أخبركَ أن النجاحُ لا يباع في أكشاك العصير. كلُّ ما ستحصل عليه هو بعضُ الكلام الإنشائي مع بعض شرائح الـ «PowerPoint».

من أرادَ النجاح بصدق فليستوفي متطلبات النجاح لهدفه المنشود.. أن تفتحَ مشروعًا تجاريًّا يتطلب معرفة المبادئ اللإقتصادية من عرض وطلب للسلعة ودراسة السوق وتحديد رأس المال وغيرها.. فلا يكفي أن تفتح مشروعًا مكتفيًا بقول «الرزق والتوفيق بيدي الله» ثم تتوقع الربح الوفير. سائر أمور الحياة لها طرقها للنجاح كذلك. إذن ماذا عن كل الطرق التي يتبعها علم البرمجة اللغوية العصبية المستمدة من أشخاص ناجحين؟ الجواب أنه لا يجب أن تبرمج عقلك وتتصرف كالناجحين لكي تكون ناجحًا في مجالهم.. لكل شخص طريقته وأسلوبه اللذان يمكنناه من تجاوز أمر معيّن.. آينشتاين اشتهرَ بتشتته وأنه غيرمرتب بينما كان نيوتن مرتبًا ومنتظمًا.. كلاهما لكن عبقريان غيرا وجه الفيزياء. ما فعله علم البرمجة العصبية أستطيع وصفه بأنه مغالطة «انحياز التأييد».. حيث تجمع الأدلة التي تدعم النظرية بينما تتجاهل ما يفندها.. لربما هنالك المئات ممن قاموا بتجربة هذه الطرق ولم تفلح معهم. أيضًا فيما يخص من نجح معهم الأمر ويرون تحسنًا في قدراتهم وحياتهم فالأمر شبيه بتأثير حبوب البلاسيبو«Placebo» وهي حبوب لا تأثير له ولكنها تعطى للمريض على أنها دواء فتتحسن حالته. فالشخص قد يكون لديه القدرة والموهبة ولكن تنقصه الشرارة الأولى أو التشجيع ليبدأ.. وكما ينسب للإمام علي البيت المشهور «وتحسبُ أنّكَ جرمُ صغيرٌ.. وفيك انطوى العالم الأكبر».

في حال لم تقتنع أخي القارئ بأي من هذه النقاط ولازلت مُصرًا على نجاعة هذه الدورات وكلًّا من علمي الطاقة والبرمجة اللغوية العصبية فلا أقل أن تقتصر على الدورات المجانية.. وأيضًا بإمكانك أن تجد جميع مايذكر في هذه الدورات في كتب البرمجة اللغوية العصبية وتطوير الذات التي أأسف على قراءتي النهمة لها ذات فترة ظنًّا مني أنها تشكل ثقافةً وتعطي أثراً.

ثانياً: الدورات والورشات التدريبية للمهارات العملية

المسألة هنا تختلف عن سابقتها.. فأغلب المحتوى هنا لا غبار عليه علمًّيا.. وفي كثير من الأحيان يعطي نتائج عملية.. ولكن تظل تعتريها بعض الإشكالات.

١ - أهلية المحاضر:

لا يكفي أن تكون كاتبًا مرموقًا لكي تكون مبدعًا في ميدان تعليم الكتابة.. ولا يكفي أن تكون مصورًا متميزًا لتُخرجَ مصورينَ متميزين. لابُدّ أن يتحلى المحاضر بأدوات اللإلقاء والشرح والثقة والتمكن من المحتوى.

في أمريكا مثلًا يحتاج خريج مرحلة البكالريوس إلى الانضمام لبرنامج التعليم للمعلمين في مدة تتراوح من سنة إلى سنتين كي يصبحَ معلمًا.

من الصعب المطالبة بالمثل ولكن لا أقل أن يكون ثمة تقنين وضوابط من خلالها نعرف الجيد من الرديء. المصور الذي يمتلك شهادة في التصوير أو لديه جوائز عالمية ليس كالمصور المتوسط المستوى..

وكذا الصحفي المتمرس.. أي أن الخبرة والموهبة تلعبان دورًا مهمًا أيضا.. لكن ما نراه أن أيًا يكن يقدمً دورةً في ما يشاء. المصيبةُ تكمن حين تجد من لا ارتباط له بموضوعٍ ما يقدمُ دورة في أساسياته أو أسسه!

٢ - غياب المنهج أو المصدر الدراسي:

دورات كهذه أعتبرها كـ «السلق السريع». فالمحاضر أو المدرب يقدم خلاصة موضوعه في شرائح العرض أو يطلب من المشاركين التفاعل العملي.. بينما ينتهي مضمون ما قدمه بانتهاء المحاضرة.. ولأن المحاضرة تقام على فترات قصيرة فالمعلومات تخزن في الذاكرة قصيرة الأمد.. لهذا يحتاج المشاركون إلى مصدر ككتيب أو فيديو به أغلب محتوى الدورة فيما لو احتاجوه لاحقًا. لأن المهارات العملية تحتاج للممارسة باستمرار وهذا يستدعي الرجوع لمصدر ما في حال النسيان أو المراجعة.

٣ - الأسعار المبالغ فيها:

هذه النقطة هي نقطة تقديرية.. فأنت تحدد ما إذا كان قيمة الدورة معقولة قياسًا بالفائدة المجنية. هناك بعض الدورات، وخاصة النسائية، الفائدة المرجوة منها مضمونة كدورات الخياطة والمكياج، لذا فقيمتها قد تكون مناسبة. بينما دورات التصوير والبرامج الحاسوبية يكون سعرها مبالغًا.. دورة كأساسيات التصوير ستتعلم فيها معلومات عامة عن «التكوين» و«الأيزو» و«سرعة الغالق» يستطيع أي مصور متوسط إلقاءها تستطيع بقيمتها شراء كتاب «أسرار التصوير الرقمي» بأجزاءه الأربعة والتعلم. ما يعزز هذه النقطة هو قلة المحتوى قياسًا على فترة الدورة القصيرة.. فالمفترض أن يتناسب السعر طرديًّا مع كثافة المادة المتعلمة.

٤ - الدورات قصيرة المدة وتجارية أكثر منها أكاديمية:

كثيرة هي الدورات الموسمية التي تتبناها المراكز والمؤسسات المختلفة أو حتى تكون من تنظيم فردي.. لكن الفائدة المرجوة منها بسيطة ولا ترتقي إلى آمال المشتركين لأنها جزئية أو سطحية. بينما الفائدة على المحاضر تكون عالية من حيث قلة الجهد المبذول ووفرة العائد المادي. مثال على ذلك دورة تحمل عنوان عريض كـ «طريقة كتابة النص المسرحي» أو «القصة القصيرة» وتقدم في ثلاثة أيام أو أسبوع على يد قاص أو كاتب مسرحي بينما يُفترض أن تُدرس على مدى فصل دراسي أو سنة دراسية بمنهج دراسي ومعلم أكاديمي لا أقل. لذا أقترح على هذه المؤسسات والجمعيات استبدال الدورات التجارية وإنشاء مراكز أكاديمية على غرار مراكز تعليم القرآن.

أخيرًا أنوه أن هذا المقال تأخر نشره أكثر من أربعة أشهر مخافة الصدام مع من أحبهم وأجلهم من المحاضرين.. لذا فهذا المقال لا يحمل إي اتهام شخصي نحو أيٍّ كان ولكنه يعيب المنهج فقط.. وللكل كامل التقدير والإحترام.. والسلام.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
أبو أحمد
[ القطيف أم الحمام ]: 29 / 4 / 2015م - 12:02 م
مقال ثري جداً وغير نظري يثير الإعجاب

( ترابط العناصر وهدف الرسالة واضح )