عقولكم التي تحبونها «4»

ما هو العقل؟

سؤال ظاهره سهل، ولكنه في حقيقته صعب للغاية. فقد كثرت الإجابات حوله من زمن الفلاسفة اليونانيين القدماء حتى الآن. لن نخوض في التعريفات القديمة والحديثة للعقل، فهذا الأمر موكول إلى مظانه، لكني أحببت لفت الانتباه إلى أن ما نعده بسيطا وبديهيا أحيانا قد لا يكون كذلك دائما.

تركيزي هنا على العقل في النصوص الدينية. ينقل صاحب كتاب «العقل والجهل في القرآن والسنة» ما قاله الشيخ الحر العاملي عن معاني العقل المستلة من الأحاديث والروايات، إذ يقول: " العقل يطلق في

كلام العلماء على معان كثيرة، وبالتتبع يعلم أنه يطلق في الأحاديث على معان ثلاثة:

أحدها: قوة إدراك الخير والشر والتمييز بينهما، ومعرفة أسباب الأمور، ونحو ذلك، وهذا هو مناط التكليف.

وثانيها: حالة وملكة تدعو إلى اختيار الخير والمنافع واجتناب الشر والمضار.

وثالثها: التعقل بمعنى العلم، ولذا يقابل بالجهل لا بالجنون، وأحاديث هذا الباب وغيره أكثرها محمول على المعنى الثاني والثالث، والله أعلم ".

والمتتبع للأحاديث يلاحظ أنها لم تقم بتعريف العقل تعريفا بالحد التام أو الناقص كما في المصطلح المنطقي. ولكنها بدلا من ذلك قامت بتعريفه تعريفا إجرائيا operational definition يركز على آثار العقل التي يمكن من خلالها اكتشافه ومعرفة صاحبه من غيره، أو معرفة مستوى حضور العقل في سلوكه وتصرفاته.

يسأل أحدهم الإمام الصادق ما العقل؟ فيجيبه: ما عُبد به الرّحمن واكتسب به الجنان.

يعلق الشيخ المازندراني على الجواب قائلا: سأل سائل عن معرفة العقل مطلقاً سواء كان حقيقياً أو رسميّاً أو لفظياً أو عن حقيقته وأجاب ببعض خواصّه وأغراضه المقصودة منه للتنبيه على أنّ معرفة هذا هو الأهم والأسهل له دون معرفة حقيقته وإشعاراً بأنّ عرفان حقيقته متعسر جدّاً فلا يحصل له بسهولة، ولهذا اختلف العلماء فيها وتحيّرت عقول الحكماء في تحديدها.

في السياق نفسه تأتي العديد من الروايات الكاشفة عن ماهية العقل من خلال آثاره الخارجية، ومنها:

عن رسول الله : إن العقل عقال من الجهل.

عن الإمام علي : العقل أنك تقتصد فلا تسرف، وتعد فلا تخلف، وإذا غضبت حلمت.

وعنه أيضا: إنما العقل التجنب من الإثم، والنظر في العواقب، والأخذ بالحزم.

وعن الإمام الحسن لما سئل عن العقل، فقال: التجرع للغصة حتى تنال الفرصة.

وعن الإمام الرضا لما سئل عن العقل، فقال: التجرع للغصة، ومداهنة الأعداء، ومداراة الأصدقاء.

كما تحدثت روايات أخرى عما يجب على العاقل وما ينبغي له وما لا ينبغي، نختار منها:

«على العاقل أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه، حافظا للسانه».

« ينبغي للعاقل أن يخاطب الجاهل مخاطبة الطبيب المريض».

«ينبغي للعاقل إذا عَلَّم أن لا يعنف، وإذا عُلِّم أن لا يأنف ».

«ينبغي للعاقل أن يكون صدوقا ليؤمن على حديثه، وشكورا ليستوجب الزيادة».

«ثلاثة أشياء لا ينبغي للعاقل أن ينساهن على كل حال: فناء الدنيا، وتصرف الأحوال، والآفات التي لا أمان لها».

كل هذه النصوص وغيرها يمكنها أن تجعلنا نميز أنفسنا وغيرنا من ناحية استثمار قوة العقل من خلال قربنا أو بعدنا - لا سمح الله - عن تلك الآثار الجليلة.

أخيرا نذكر بعض النصوص التي تناولت منزلة العقل ومكانته، وأنه أساس الصلاح والفلاح والغنى الذي لا فقر معه. منها:

عن رسول الله : قوام المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له.

وعن الإمام علي : أصل الإنسان لبه، وعقله دينه.

وعن الإمام الحسن : لا غنى أكبر من العقل.

فلنعرف قيمة عقلنا الذي نحبه، ولنحترم معطياته كدليل صادق على حبنا الحقيقي له.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا

شاعر وأديب