التوازن الطائفي

 

هل نجاح انتخابات مجالس المحافظات في العراق توحي بتجاوز العراق للاصطفافات الطائفية، وبالتالي يتمكن العراقيون الزعم بابتعادهم عن التشنجات والمعارك الطائفية؟ وهل سيتجاوز اللبنانيون المحاصصة الطائفية في الانتخابات النيابية القادمة، التي لاحت في الأفق علامات تسخينها؟
من مقدمات الابتعاد عن التشنجات والمعارك الطائفية القدرة على استيعاب مسألة التوازن بين المحافظة على وجود وبقاء الذات ووجود وبقاء الآخر. هذا التوازن يصبح بلا معنى، ومثالي الصورة، وبعيداً عن الواقع إذا لم يتشكل في منظومة من التعاملات بين أبناء المجتمع الواحد، على هيئة احترام متبادل بين مكونات المجتمع، وتسويد العدالة الاجتماعية دون تمييز بين الناس، وتكافؤ الفرص الوظيفية والإعلامية والعلمية والسياسية بين المواطنين، بحيث يؤمن الجميع بحق الجميع فيما يعتقدون دينياً وفيما يمارسون تعبدياً وفق مذاهبهم المختلفة، وكذلك الابتعاد عن سياسة التعيير والتجريح سلوكياً وعملياً من قبل أحد المكونات الاجتماعية ضد المكونات الأخرى. حينها قد يُكتب النجاح لعملية التوازن بين بقاء واحترام الذات وبقاء واحترام الآخر.
هذا التوازن، كضرورة استراتيجية لخلق التآلف بين أطياف المجتمع وعدم التنافر بينها، يواجه دائماً بجبهة من المتشددين والمتطرفين من كل طيف. ففي كل دائرة من دوائر الانتماء والهويات يتواجد متطرفون فكرياً وسلوكياً، وهو أمر طبيعي إذا ما أخذناه في سياقين، الأول: طبيعة تشكل الجماعات. والثاني: الرغبة الجامحة للمحافظة على الهوية والدفاع عنها. لذلك ينجح المتطرفون - في كل دائرة- عادة وبسهولة عجيبة في جمع المؤيدين والمريدين بسبب الشعارات المرفوعة من قبل المتطرفين، وبسبب قابلية المجتمعات الشرقية للتعصب الجماعي القادم من الموروث التاريخي العصبوي للقبلية، وبسبب المفهوم المغلوط للإيمان بهوية واحدة تتنافر مع الهويات الأخرى مع استصحاب جميع النزاعات التي تعرضت لها كل هوية.
بالتالي يصطدم المتطرفون من الانتماءات المختلفة ضد بعضهم، فتبدأ المعارك الكلامية وتتحول إلى معارك دموية. فكل معاركنا في المنطقة العربية والإسلامية تنبثق عن انتماءات ضد أخرى.
تلك الصورة تُشخص واقع حال تطرف بعض المنتمين للهويات، ولكن من المهم أن لا يتحول الانتماء لهوية ما، وهو حق مشروع لكل إنسان، إلى أداة حربية يقاتل المرء فيها المنتمين للهويات المخالفة لهويته. وهذا ما يجعل دلالات مفردة الهوية تستبطن مخادعة غير مرئية قد تفضي إلى مهالك غير منظورة، فـ«كلمة هوية هي مضللة، لأنها توحي في بادئ الأمر بحق مشروع ثم تصبح أداة قتال، وهذا الانزلاق من دلالة إلى أخرى يبدو خفياً وطبيعياً، ونحن ننخدع به أحياناً، فنشجب ظلماً يمارس وندافع عن حقوق شعب يعاني، ولا نلبث أن نجد أنفسنا متواطئين مع مجزرة ترتكب» الهويات القاتلة/ أمين معلوف ص 50.
تحتاج المجتمعات الإنسانية للعودة لأصلها كهوية إنسانية كي يتحقق لها صياغة وتشكيل أرضية قابلة للتآلف مع الغير وعدم التنافر مع المختلف. فلا توجد هوية لم ترفع شعار الإنسانية ولها مبانيها الفكرية الداعية لها، وكذلك لا توجد هوية خالية صفحات أهلها التاريخية من تطرف ضد الآخرين. فهناك ترابط وثيق بين الهوية وأهلها، فلا يمكن القول بتأثير الهويات على حامليها ثم نزعم بعدم تأثير تصرفات أهل الهوية على سمعة وفهم الآخرين للهوية ذاتها. ويمكن أخذ الهويات الدينية مثالاً واضحاً في التأثير المتبادل والمتعاكس بين الهويات وأصحابها، ولكن الأصل الجامع هو تآلف المجتمعات الإنسانية عبر التوازن بين المحافظة على الذات وبقائها والمحافظة على الغير وبقائه. هل يحدث ذلك في العراق ولبنان؟ نأمل ذلك .

كاتب وباحث