فتاة الليلك

تخامرني لهفة قاتلة للقائها، أعاود النظر نحو ساعاتي الجلدية مرةّ تلو الأخرى، كان من المفترض وصولها قبيل الساعة الثامنة بقليل. أجول ببصري في الأنحاء علّني أجد مرادي في الوجوه الهائمة التي توزعت في بهو الفندق. ها هي ذي، بلا شك، فاتنتي. أمكنني أن ألحظها من بعيد، لا أخطئ مشيتها الفريدة أبدًا. ترنوا إليّ ملّيًا مليًّا. المغناج، تتلوى وتتمايل في خطواتٍ رشيقة، لكأنما تحاكي رقاصّ ساعةٍ جداريّةٍ إذ يتمايل خصرها ذات اليمين وذات الشمال. تدنو بقربي وتطبع قبلة دافئة.

« أستميحك المعذرة، ظرفٌ طارئ حال دون وصولي في الموعد ».

«آه، لا عليكِ».

ليست في حاجة كي تعتذر، إنها تجسيد للجمال المطلق بحيث تستحيل خطاياها إلى عدم.

طفقت أتأمل عينيها الناعستين، عينان خلقتا لتغوي، يشع منهما وهجٌ ينمّ عن ذكاء وقّاد.

فاتنتي لا تبدو مولعةً بآخر صيحات الموضة، بيد أنها تتحلى بذائقة لا يشاطرها فيها أحد حين يتعلقُّ الأمر بما ترتدي، تستشف ذلك من معطفها الليلكي الذي يخفي تحته هذا الجسد الرهيف. نزعت عنها معطفها بلباقة لينكشف عن ناظري فستان من الساتان الأحمر القاني يمتد نحو ساقيها بينما يبدي ذراعيها العاريتين.

«الكلاسيكية الصارخة» كما يحلو لي تسمية أناقتها. فاتنتي أقرب ما تكون إلى مارلين مونرو ولكن بلمسة فرنسية.

فبالإضافة لجاذبيتها المتمثلة في جمالها الأخاذ، هي تنتمي لأولئك القلائل ممن يمتلكون حضورًا طاغيًّا يحيل ما سواهم إلى الانكماش. تبرع، من دون قصد، في أن تغدو محورالإهتمام أينما حلّت. عيون الحاضرين تراوح مكانها حتى تكاد تقفز من المحاجر تتبعًا لسكناتها.

«ماذا تشربين يا عزيزتي؟ »

«نبيذ العنب، من فضلك»

عمدت إلى طلب النادل فورًا..

«كيف لي أن أخدمك، سيدي»

« هلّا جلبت لنا كأسين من نبيذ العنب، وبعضًا من الحلوى السويسرية »

« بأمرك»

راحت تحدثني عن مجريات أسبوعها الفائت من أحداث ريثما يصل الشراب، وكلّي آذانٌ صاغية.

صوتها الأبح وحده كافٍ أن يضاهي سوناتا ضوء القمر، أشعر بالأسى لبيتهوفن، لا لكونه أصمًّا، بل لأنه لم يحظ بفرصة

الإصغاء لأعذب ترنيمة سبحت في الأثير: صوتها.

كان حبنا أفلاطونيًّا، على الرغم أنها تشعلُ فيّ غرائزي الأبيقورية بإيماءة واحدة من أناملها الرقيقة.

برفقتها، تستبد بي على نحوٍ ما فأغرق. لم أؤت القدرة على سبر ما تكتنفه هذه الابتسامة المشرقة. لطالما غمرتني حماسة مشوبة بالخوف من المجهول في حضرتها، إنها عصية على التنبؤ والسيطرة. تبدو أبدًا وكأنها لحظة من حلمٍ جميل ما يفـتأ أن يزول.

يعتريها غموض مريب، كزهور الليلك.

اعتدت أن أبتاع زهور الليلك صبيحة كلّ أحد تيمنًا بها، أبعثرها في أرجاء الشرفة، هكذا تبدو كما لو كانت بجواري على الدوام.

ارتشفتنا النبيذ على ضوء الشموع الخافت. قرعنا الكؤوس وهتفنا لأجل اتحادٍ أزلي.

وفي خضم الارتباك الحميم، زمت شفتيها بابتسامة ماكرة، ثم باغتتني بعناقٍ حار.

ألا نبدوا رائعين وهي تطوقُ عنقي بيديها الناعمتين!

ودعتها وأمارات النشوة تنضح من كلينا.

فور عودتي إلى المنزل، هممت بتغيير ملابسي، إذ بظرفٍ صغير يسقط من جيب السترة. كان يحوي رسالة من إمضائها.

لم تستطع قدماي حملي إثر قراءتي لتلك الحروف. أسندت ظهري على زاويةٍ من زوايا الغرفة. تهادى سرابها قبال الشرفة، كان المطر يهطل بغزارة عشية ذاك المساء التشريني البارد. أزهار الليلك ذابلة قبل أوانها، وعبثًا أجاهد منع مآقيّ من البلل.