الربا وصاحبه المتخبط «1»

الكثير من النقاشات والحوارات دارت حول قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» وخصوصا حول المقطع الأول منها، حيث ذهب البعض إلى دلالة هذا المقطع على عدم انسجام بعض الظواهر القرآنية مع معطيات العلم الحديث، وأن المسَّ، الذي هو الجنون، أسبابه معلومة عند علماء اليوم، وليس من بينها الشيطان أو الجن، وأن القرآن وظّف زعْماً كان عند العرب آنذاك يُحيل سبب الجنون إلى الجن. وقال فريقٌ بأن القرآن قد جرى في هذا التشبيه وفق المعتقد السائد في المجتمع الذي نزل فيه، لا لتصديقه، بل ليقرب لأذهان المخاطَبين حال آكلي الربا. ونفى هذا الفريق أن يكون للشيطان أو الجن أي سلطان على الإنسان مستدلين بقوله تعالى على لسان الشيطان نفسه يوم القيامة: «وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ» وأن تسليط الشياطين أو الجن على الإنسان لا يتناسب وعدلَ الله تعالى.

ولنا هنا وقفات مع هذا المقطع من الآية:

1 - المراد من التشبيه في المقطع كما ذهب إليه صاحب الميزان هو «كون المراد قيام الربوي في حياته بأمر المعاش كقيام الممسوس الخابط في أمر الحياة». وهو بهذا التفسير ينفي ما ذهب إليه معظم المفسرين من تشبيه حركات المرابي بحركات الممسوس حال الصرع. ويؤيد رأيه بقوله تعالى في المقطع التالي: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» الذي يعبر في الواقع عن تخبط في الاعتقاد تنعكس تخبطا على مستوى الممارسة. فقياسهم معكوس، يقيسون البيع بالربا، وكأن الربا هو المعيار، بدل أن يقيسوا الربا بالبيع فيقولوا: إنما الربا مثل البيع. يقول صاحب تفسير مواهب الرحمن: « يدل قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا على ظهور التخبط على الأقوال بعد ثبوته في الأفكار لشدة انغمارهم في المعصية وإصرارهم على ارتكاب الكبيرة فإنّ للتخبط درجات متفاوتة حسب مراتب المعصية والمداومة عليها».

2 - المقطع يتحدث عن آثار وضعية معينة لا تنفك عن آكلي الربا. وليس من الضروري أن يرى كل أحد تلك الآثار، بل إن بعض آثار المعاصي قد لا يشعر بها صاحبها، فمثلا آكل مال اليتيم ظلما لا يشعر بالنار في جوفه: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا». وهكذا الأمر في كثير من آثار المعاصي.

3 - من المسلم به عند المسلمين كافة أن القرآن كتاب عزيز «لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» فلا يصح أبدا أن يكون التشبيه مجاراة من القرآن مع بعض الاعتقادات الفاسدة «فإنّ اللّه تعالى أجل من أن يذكر الباطل في كلامه من دون أن يُظهر بطلانه ويبيّن فساده».

4 - المقطع لا يدل على أن كل مسّ من الشيطان، لكن المتيقن أن بعض المسّ منه. «والمرض تارة: يكون له أسباب طبيعية وتكوينية معروفة وأخرى أسباب غير مدركة للحس كالشيطان والجن ونحو ذلك من الأسباب فلا يمكن إنكار ذلك بمجرد عدم إمكان إدراك السبب كما يدعيه الماديون». فمن المعلوم أن «العلم المستند إلى المختبر والتجربة، حقيق بالإثبات دون النفي، فيحق للعلم أن يقول: إن السبب الكذائي دخيل أو مؤثر في الجنون، ولكن لا يحق له نفي تدخل الأسباب الأخرى، وليس من البعيد أن تكون الأسباب الغيبية دخيلة في بعض حالات الجنون».

5 - أما هل يخالف ذلك عدل الله تعالى، فجوابه في الدقيقة التالية إن شاء الله.

شاعر وأديب