القراءة واختلاف الرؤى بين الأجيال

تعد القراءة من العوامل المهمة التي تساعد في تكوين شخصية الناشئ الصغير، وتعلمه القيم والسلوكيات التربوية السليمة، والعادات والتقاليد الحميدة، والتي يجب أن تنمو معه على مدى مراحل حياته. فإذا كانت الكلمة المكتوبة، والقصة المسموعة، في أزمنة سابقة، ساهمت في تهذيب سلوك الطفل وتنمية ثقافته ومعارفه، فإن السؤال اليوم هو عن مدى تأثُّر الكتاب التقليدي بوسائل وأجهزة الاتصال الحديثة؟ وهل مازالت مكانة الكتاب الورقي عند الأجيال الجديدة على ما كانت عليه عند الآباء، أم تراجعت مكانته في ظل هذا التقدم التكنلوجي، وعصر الألعاب الإلكترونية، والهواتف المحمولة؟

وفي الإجابة عن هذا التساؤل يجزم البعض، ممن ينتمي إلى جيل ما قبل الثورة التكنولوجية، بالأثر السلبي الذي تركته التكنولوجيا على علاقة الأجيال الجديدة بالكتاب والقراءة. فهم كآباء، أو مربين، يرون أنه كانت بينهم وبين الكتاب علاقة حميمة، لا يمكن أن تقدر بثمن، حيث تعلموا خلالها كيف يعشقون القراءة. ودائماً ما كانت جملة ”خير جليس في الزمان كتاب“، تتردد على ألسنتهم. فالكتاب بالنسبة لهم يكاد يكون النافذة الوحيدة للثقافة، والوسيلة المتاحة للتجوال في ميادين المعرفة، حيث لم تكن لهم معرفة، أو صلة، بأي وسيلة من وسائل الاتصال المعروفة اليوم، كالتي بين أيدي أطفال هذا الزمن.

كما أنهم يُعيبون على أجيال اليوم، من أطفال وطلاب ومراهقين وشباب، بأن ليس لهم صحبة مع الكتاب، ولا يميلون إليه، ولا يقوون على قراءة صفحة في كتاب، بل تراهم جلوس يمسكون بهواتفهم النقالة للحديث مع أصدقائهم، أو يتصفحون صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، حيث تجذبهم هذه الوسائل إلى درجة الشعور الشديد بالإعياء والمرض الذي يصعب الفكاك منه.

يضاف إلى ذلك يتحدث الآباء عن أن التكنولوجيا أثرت سلباً في طريقة تفكير الجيل الجديد، فشبوا غير مكترثين حتى بأهمية درس التعبير الذي يقدم لهم في المدرسة، فتفكيرهم يذهب إلى اعتبار مادة التعبير هي مجرد وسيلة للنجاح الدراسي فقط، فيما الحقيقة هي أن اغتناء الكتب والقراءة والمطالعة تنمي موهبة الطالب وتساعده على زيادة ثقافته، كما أنها تعتبر وسيلة إبداعية تسمو بالذهن وتساعد على الإبداع. فالكتب التي تشترى بعيداً عن الكتب المدرسية ويتم قراءتها يستفاد منها خلال المرحلة الدراسية، لأنها تحتوي على معلومات مختلفة وأوسع من المواد الدراسية التي يتعلمها الطالب.

غير أن الأجيال الجديدة ترفض بشكل قاطع مثل هذه التُهم، ويرون أنها تهم مبالغ فيها، أو لا أساس لها، إذ لا أحد اليوم في غنى عن اغتناء أجهزة التكنلوجيا الحديثة، وخصوصاً أبناء هذا الجيل، حيث لا غنى لهم عن استخدام التكنولوجيا بكل صورها ووسائلها كأدوات يومية وضرورية مثل السيارة والأدوات المنزلية في كل بيت. فهم الآن يعتمدون على الحاسوب في مذاكرة الدروس، والحصول على المعلومات المطلوبة للأبحاث من مواقع الإنترنت، كما الكتابة، والطباعة، والنسخ.

لذلك من غير الممكن بالنسبة لهم اليوم العيش من دون تكنولوجيا، لأنها لم تعد وسيلة ضرورية للعيش والدراسة والتعلم فقط، بل أيضاً أصبحت من وسائل الترفيه والتواصل المهمة في هذا العصر، من خلال الدردشة والتواصل مع الأصدقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتكوين فرق اللعب لممارسة الألعاب الإلكترونية التشاركية مع الأصدقاء عبر الإنترنت.

وإذا كان هناك كثيرون من الأجيال الناشئة يعترفون بأنهم لا يحبون القراءة، كون الكتاب بالنسبة لهم شيء ثقيل ويجلب السأم والممل، غير أنهم يفضلون عليه مشاهدة الأفلام الكرتونية، والألعاب الإلكترونية الموجودة على الهواتف النقالة، فيما تقتصر قراءتهم على الكتب المدرسية المقررة فقط، ولا تستهويهم قراءة القص أو الروايات.

في المقابل هناك آخرون من أبناء هذا الجيل على الرغم من أنهم لا يحبون قراءة الكتب الورقية التقليدية، إلا أنهم يقرؤون الكتب الإلكترونية عبر الأجهزة الإلكترونية، كونها أسهل وأخف وزناً في الحمل من الكتاب الورقي، فالبعض منهم يستخدم جهاز الآيباد في القراءة، لما يحتوي عليه من تطبيقات تتيح لهم قراءة الكتب التي تتوافق مع ميولهم وكتابة ملخصات عنها، أو التعبير في سطور موجزة عن أهم ما تضمنته من أفكار، والمشاركة بها على الفيسبوك والإنستغرام.

أما بخصوص مقولة ”خير جليس في الزمان كتاب“، والتي طالما تغنت بها الأجيال السابقة، ويتم ترديدها بكثرة، فإنها لا تعني فقط الكتاب الورقي فقط، وإنما تشمل قراءة الكتب على اختلاف وسائلها وتعددها. إذ لم يعد الكتاب الورقي الجليس الأوحد بالنسبة للأجيال الجديدة، بل أيضاً الكتاب الإلكتروني أصبح خير جليس في هذا الزمن، لسهولة الوصول إليه، وسرعة الحصول عليه.

بالإضافة إلى ذلك يعترف أبناء هذا الجيل بأنهم يفضلون استخدام الإنترنت والوسائل الإلكترونية للقراءات السريعة والمختصرة، والمعلومات العامة والحديثة في مختلف المجالات. ويرون بأن الواجهة الإلكترونية أكثر قرباً وواقعية وعلمية لهم من المطبوعات الورقية، حيث يجدون في الإنترنت ما يحتاجون إليه بشكل مكثف، وفي فترة وجيزة وسريعة، فضلاً عن كونه يحتوي على أكثر مما تحتوي عليه الكتب الورقية بكثير. ومع أن الوسائل الإلكترونية توفر الوقت والجهد، إلا أن البعض منهم يشير إلى أنه لا ضير من قراءة بعض الكتب المطبوعة بين الحين والآخر.

وإذ كانت الأجيال السابقة تتهم وسائل الإعلام المختلفة، وأدوات التكنولوجيا الحديثة ومنتجاتها المختلفة، بأنها تسببت في إضعاف قدرات الأجيال الجديدة اللغوية والتعبيرية، كما مهاراتهم الكتابية، إلا أن أبناء الجيل الجديد ينفون هذه التهمة عن أنفسهم، ويقولون بأن الأمر على العكس من ذلك، فقد ساهمت المنتجات التكنلوجية الحديثة في تطوير قدراتهم اللغوية، ومهاراتهم الكتابة. فهم اليوم يكتبون مئات الجمل المفهومة باللغة العربية والإنجليزية على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي الخاصة بهم.

وحسبهم هنا أن المنابر الإلكترونية تملك صدى أوسع من نظيرة التقليدي المطبوع، وأن الأنظار اليوم تتوجه بشكل كبير نحو النشر الإلكتروني، في الوقت الذي أهمل فيه الورقي، وأن مواقع التواصل حققت نسبة قراءات مرتفعة مقارنة بنسبة القراء لأي كتاب أو صحيفة، فضلاً عن تفاعل القراء والزوار المباشر مع ما يكتبونه وينشرونه.

علاوة على ذلك، ينفي هذا الجيل بشكل قاطع ما يوجه له من اتهامات مبالغ فيها حول تأثير التكنولوجيا السلبي على تواصلهم مع أسرهم والمحيطين بهم، ومن غير الصحيح اتهامهم بأنهم مقصرون وغير قادرين على تحمل المسؤولية، أو أن التكنلوجيا أضعفت مهاراتهم التواصلية، بل على العكس يؤكدون على أنها لم تقلل من فرص تواصلهم الاجتماعي، فالتواصل المباشر مع أفراد الأسرة في أحسن حالاته، وهم يتناولون الطعام معهم بشكل منتظم، ويتبادون الأحاديث معهم، ويقدمون يد العون للأهل، ويؤدون الواجبات المنزلية، ويقومون بما يطلب منهم من مساعدة.

هذا باختصار ما يمكن عنونته باختلاف الرؤى وتباينها بين الأجيال حول مستجدات العصر وتغيراته، وهو من وجهة نظرنا أمر طبيعي، وسنة من سنن الحياة، وظاهرة إنسانية لا تقتصر على مجتمع دون آخر. فكل جيل له نظرته للحياة يستقيها من الثقافة السائدة في كل مرحلة زمنية، فالمجتمعات البشرية تطرأ عليها تغيرات ومستجدات وأفكار جديدة في كل المجالات مع تعاقب الزمن ومرور السنين، ويكون لها تأثيرها المباشر وغير المباشر على سلوك الأفراد والجماعات سلباً وإيجاباً.

فإذا كان الزمن الذي عاشه الآباء سادت فيه المطبوعات الورقية، فإن الزمن اليوم تتسيده التكنلوجيا الرقمية، ومن الطبيعي أن الأجيال الجديدة تكون أكثر تأثُراً بمثل هذه المخترعات، وأكثر استجابة لتقبلها، بل والتمرد على ما اعتادت عليها مجتمعاتها من تقاليد وقيم. فهم ينظرون إلى أفكار الجيل القديم وتصوراته على أنها تصورات قديمة لم تعد تلائم العصر وإيقاعاته. فيما جيل الآباء، وإن كان يشتكي من تمرد الجيل الجديد على العادات والتقاليد والقيم، وسطحية تفكيره، وقلة خبرته في الحياة، وتراه يمانع بدايةً في تقبل ما هو جديد، إلا أنه يتقبله ويسلم به مع مرور الوقت.