مغادرة بلا رجعة

لسببٍ ما تركنا ملعبنا السابق فبقينا أيامًا نبحث عن ملعبٍ بديل، وجدنا أرضًا كانت جارةَ البحرِ مباشرةً وبالتحديد قرب الميناء أو ما تُسمى ب ”الفُرضة“، عندها تخيلنا كراتنا وهي تبحر كسفنٍ تغادرنا دون رجعة وهذا ماحدث مرارا.

كصبيةٍ كنَّا نلعب بحماسٍ متناسين البحر إلا أنه مع كل ”شوته“ طائشة يفتح أحضانه للكرة، وكثيرا ما تواطأ مع الريح ليهرب بها في الوقت الذي كان القليل منا يضحّي بإلقاء نفسه لإنقاذها؛ فهلاكها خيرٌ له من ”تلطيخ“ أحد والديه له عند عودته إلى منزله مبتلًّا بالماء ملطَّخًا بالتراب، ولحسن الحظ يعطف علينا الموج حينًا فيعيدها إلينا وحينًا آخر يأخذها إلى الضفة المقابلة وعندها يركب أحدنا دراجته متجها إلى هناك لاستقبالها.

إحدى المرات وأنا أتأمل مع أصدقائي الكرة وهي تسبح سمعتُ صديقي الذي يصغرني وهو يشير بيده بأن هذا الجزء من البحر لوالده، ورغم مأساوية مشهد الكرة ضحكنا عليه جميعا مخبرين إياه بأنك تسخر، فكيف لبحرٍ أن يتملكه بشر؟!

قبل أن نضطر إلى مجاورة البحر كان ملعبنا السابق كشبه جزيرة، ملعبٌ تحيطه البيوت من ثلاث جهات، أما الجهة الرابعة فتطلُّ على يابسةِ الشارع. هذا يعني أن كرتنا في كل مرةٍ معرضةً للاختطاف بعدما تهوي إلى داخل أحد البيوت وعندها علينا أن نصمت فقط عدة لحظات لنسمع صرختها بعد طعنة سكين فتنخلع قلوبنا لتلك الصرخة، وإذا ما نجتْ من ذلك تكفَّلتْ بها إحدى السيارات بدهسها عقابا لهروبها من أقدامنا الحافية.

هذه المآسي استنزفت من ”خرجاياتنا“ مبلغا لا بأس به، وبما أن كرة القدم حينها ملجأنا الوحيد فلا بدَّ من التضحية؛ لذلك تعايشنا مع ذلك الاستنزاف إلا أن حدثا اضطرنا إلى ترك ملعبنا هذا، ففي إحدى الليالي الحالكة سمعنا صراخًا قرب الملعب، هرولنا نحوه لنرى صاحب بيتٍ قريبٍ منه مشمّرًا عن يديه وهو يكسِّر العارضات بغضب وسط تصفيق أولاده الصغار وتراقصهم. اكتفينا بالمشاهدة خشية أن نقترب فيكون مصيرنا كالعارضات. عندها بحثنا وبحثنا عن ملعبٍ بديل فلم نجد إلا البحر يرضى بجوارنا فقبلنا بشروطه.

قبل أيام وأنا أتمشى مع ولدي مررتُ على ذلك الملعب ”ملعب البحر“ وما زالت الأرض كما هي، أخبرتُه بمعاناتنا في السابق وحدثتُ نفسي بأن الصبية الذين يلعبون فيه الآن لن يخشوا أن يخطف البحرُ كرتَهم لأنه هو من غادر بلا رجعة، وحينها تذكرت صديقي الذي ضحكتُ عليه فضحكتُ كذلك ولكن هذه المرة على نفسي ف ”شرُّ البلية ما يضحك“.