جينات البسوس

وقعت حرب البسوس في العصر الجاهلي بين قبيلتي بكر وتغلب، واستمرت لأربعين سنة بحسب رواة العرب المكثرين. تسبب في نشوبها عدة أطراف وهم: رجل يسمى كليبًا وآخر يسمى جساسًا وامرأة تسمى البسوس، وقد سقط في تلك الحرب الطاحنة الكثير من القتلى - بحسب ذلك الزمن - من كلا القبلتين وسط عداوة استمرت كل تلك المدة الزمنية.

حرب البسوس تتجدد في كل زمان ومكان ولكن بنسخ متغيرة محدّثة، ومن أشكال ذلك التحديث الذي وقع فيها أنها أصبحت بأسلحة غير أسلحة الحرب التقليدية، فلا السيف موجود ولا الرمح، ولا أدوات الحرب الأخرى، وإنما اللسان حاضر وبشراسة، إنه لسان السفاهة والنزق، لسان هو بعيد كل البعد عن العقل والحكمة والمنطق وعدم التحيز.

لسان أدى إلى حرب ضروس هدفها قطع الرحم لا وصله، تمتد لعقود طويلة ويتوارثها الأجيال، ويستمر القطع ويتقادم جيلا بعد جيل إلى أن يأتي جيل يرى بأنه طرف في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، حرب لا يعرف حقيقتها ولا علة حدوثها، لكنه يتحمل وزرها وتبعاتها، ويبقى القطع متأصلاً فيه، وإذا ما حاول الإنسلاخ من ذلك؛ لإعادة الوصل، يجابه بحرب ربما تكون أشرس وأشد من سابقاتها، ليطاله ذلك القطع هو وفرعه فيفصله عن أصله.

في الرعيل الأول الذي أسس للقطيعة تكون الأسباب معروفة ومعلنة والشهادة حاضرة، يعقب ذلك الجيل جيل يعرف الأسباب دون أن يكون شاهدا فيها، ثم يأتي جيل يكون شاهدا لم يرَ شيئًا، فهو لا لا يدري عن الأسباب التي أدت إليها ولم يكن حاضرا فيها، وكأن لسان حاله يقول: هذا ما وجدنا عليه آباءنا.

هذا الجيل الأخير ضحية الجيل الأول، وكل ما يعانيه من قطيعة للرحم، وربما لا يعرف أرحامه ولا يدري أنهم أرحامه، ولم يكن ليحدث ذلك القطع لولا غياب صوت الحكمة في ذلك الزمن الغابر.

الجغرافيا تتغير والتاريخ لا يرحم، فهو يصنف الناس على مر الدهور كل بحسب دوره، فيضع من سعى وبذل الجهد وحدد أسباب القطيعة، وأوجد لها العلاج بحكمة وحنكة، ثم أصلح ذات البين، يضع كل هؤلاء في صفحات التاريخ البيضاء بل والناصعة البياض، في المقابل فهو يضع من كان سببا مباشرا أو غير مباشر، ومن ساعد أو شجع، أو كان له دور شيطاني، يضع كل هؤلاء في الصفحات السوداء بل والحالكة السواد.

هذا التصنيف الذي ذكرناه هو تصنيف دنيوي، فما بالك بتصنيف الآخرة ذات القوانين الصارمة، والتي يتجلى فيها العدل الإلهي ويهيمن عليها، وأصحاب الحقوق هناك لن تكون مفردات كالتسامح والتنازل والصفح موجودة عندهم، فهناك الأمر عظيم ومهيب والكل محتاج ولو لأجزاء الحسنة.

ظلم كليب وجينات البسوس ورعونة جَسَّاس تعيد نفسها في كل زمن، وهي التي تولد الكره والحقد والضغينة بين الأقارب، وتؤسس للخراب وقطع الأرحام، وعلينا أن نجابهها بجينات المصلحين؛ حتى لا تجد لها أرضًا للغرس الشيطاني الذي يفتك بالعلاقات الطيبة بين الأقارب.

قال تعالى:

«الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ». [سورة البقرة، آية: 27]