خاطرة في رمضان

حسن آل ناصر

 أعطوني فرصة قليلة لأن أدخل في شهر كريم من عند الله الحليم العليم ، تسبح الحور في لذاته وينتشي القرب في تلاواته ، وتعبق الأنفس الطهر في إحساسه ، والإيمان المعلن يغذي أيامه ، فهذا الشهر الفضيل من أعظم الشهور في السنة ومن أقواها إعلاميا ، ففيه الفطور والسحور ، ويشق طريقه الزاهي ليلة نصف بهيجة وسعيدة ، وبعدها تضمحل أيامه بليلة القدر العظيمة ، ويبقى فيه أحزان أمتي الثقيلة المصيبة ليلة وفاة الإمام أبو الفضيلة ...

   كم أنا شغف بهذا الشهر شهر الرحمة والمغفرة والرضوان ، نعم رمضان الذي ننتظره من عام إلى عام ، ننتظره لنحيا من جديد ، ودعوانا بأن يأتي ويعود إلينا بسرعة ، وتأخذنا الموجة بالأيام لمنصة الصيام حيث الروحانية والإستقام من أول يوم إلى أخر يوم ، ترفل بأحلامنا الكبيرة وتحضننا ببركاتك التي لا تنتهي مدى العام ...

   ماذا أقول في خاطرتي هذه الصغيرة جدا ؟!!

   هل يرتقي الحرف بعد الغياب ؟!!

   فها هو رمضان يستقيل ثم يعود ويطرح في نفوسنا حنين الانتظار بعدما رحل عنا عاما كاملا ، ونزهر به من جديد ونستقبله بعمر جديد وبروح جديدة سقاها رمضانيه السابق عنوان من دروس وعبر ، لا شك في ذلك فالأيام تعلم الصبر وشق الطريق ...

   أذكر من طفولتي في ربوع  الطهي والطبخ والبذخ والكرم ، آه أنها أيام لا تنسى في نخيل الماضي القريب البعيد ، حيث الرطب والتمر وعدق تلك النخلة الكثيفة في ثمارها ، والأشجار الضخمة الجدع والطويلة الغصن ...

   لا بد أن نعترف أن هذا الشهر أمير الشهور ، وأنه شهر عبادة وتقرب إلى الله ، وله في الذكرى حنين وعبق من أحلامنا التي ارتمت في ساحة الهجير المر ، نعم نفتقد الآن تلك التجمعات الماضية التي تجمعنا على مائدة واحدة ولقمة واحده ...

   جميل جدا ذلك المشهد والمنظر حين نجتمع مع كل أفراد الأسرة في منزل واحد ، وتناول إفطار اليوم الأول إلى اليوم الأخير ، تلك العادات والتقاليد التي كنا نواظب عليها تطرح في أنفسنا الحب والتعاون ، والأجمل من ذلك أن نحافظ عليها ونحيي أجيالنا عليها ، فالوصول لذات الحدث موجة كبرى في مزيج هذه الحياة إذ أن الظروف والمشاغل قد تلهينا وتشتتنا وتجعلنا كل فرد في طريق معكوس لا يجمعه بأحد ...

   في هذا الشهر الكريم تتساقط البركات والأرزاق من السماء ، نعم تهز النفوس مشاعر لا أفهمها فقط أشاهدها عن قرب ، تحيي فيّ الأمل وأطمئن وأمن بالله الواحد الأحد ، وأشكره على نعمائه ، هنا جمال رباني ، قدسي ، معجزة ، ووفرة رزق ، وحفاوة قلب ...

   أذكر يوما إنني مع أبي في البر لماذا وقتها لا أدري ؟!!

   وعندئذ عرفت منه لماذا نحن هنا ، يريد أن ينظر إلى بزوغ هلال رمضان ، ليس نحن فقط من كان هناك ، كان غيرنا يتقصى الهلال ، جميل كان ذلك المشهد ، وجميل تجمع الناس ، ليس هناك حواجز أو حدود أو جدران أرض مبسوطة واسعة إلى أبعد ما عندي من أفق ...

   أما عن فطورنا فعدد ولا تحصي ، كانت والدتي الحبيبة قمة في الروعة وقمة في الطهي ، حيث تطبخ أنواعا نفتقدها في أيام غير أيام رمضان ، كانت رائحة الشواء تجذبني بطعمها الفواح ، مثل الأكلات الشعبية :

   ( الخبيص ، الشوربة ، المهلبية ، القيمات ، الساقوا ، وووو)

   عندما تقلب أمي اللحم على الجمر بالسيخ عندئذ أريد أن أعمل معها ، وعندما يأتي والدي بخبز التنور العربي أهرول نحوه لأحمل منه الخبز ، ولكنه يرفض لحرارته ، كانت أيام حلوة وجميلة ، وعجينة والدتي تلك الصفراء أنظر إليها بتمعن لأكتشف سر ليونتها ، آه كانت أيام ...

   لقد أستئنفنا الحديث في الماضي وإليك رجعة إليه ، ولكن دعوني أطرح ميزة لطهي زوجتي العزيزة الحبيبة ، أنها هي فقط من تذكرني بأكلات أمي الماضية ، عندما أراها في المطبخ تطهي لي الطعام ، أناوشها وأحكي لها عن ذكريات رمضان وتأخذني إلى أبعد من ذلك وتعطيني مزيدا من الإلهام والخوض في سمر رمضان ...

   وأنا في سن الحادية عشره ، كنت ذات يوما أتجول قبل أذان المغرب ، كانت الساعة عند حدود الرابعة عصرا ، كنت أجوب طرق المزارع والنخيل لأتسلى من عناء العطش والجوع ، وفجأة رأيت بداية نار مشتعلة ، فكرت واستعجلت التفكير حتى خطر ببالي أن أهرول نحو المجرى الذي به ماء ، وعندما وصلت إليه لم أجد ما يجعلني أحمل الماء ، وفترة قصيرة حتى ألهمني الله بأخذ كيس بلاستيك ولكنه كان مخرق ، فقلت لا حول ولا قوة ألا بالله ، ملئته وأسرعت لأطفئ النار ولكن بسبب الخروق يكون قليلا ، وتارة وتاره حتى أطفأتها وذهبت إلى المنزل ، رأتني أمي على حالتي المتعسفة وسألت :

   ما بك يا ولدي ؟!! هل حصل لك مكروه ؟!!

   فأخبرتها بالقصة وفرحت بما فعلت ، ولم أعرف حينها أن هذا كان وقت يتسنى لي فيه النسيان ، ودقائق حتى أذن المؤذن ، وأثناء الفطور قال لي أبي :

   أحكي لي ما جرى اليوم لك في العصر ؟!!

   فحكيت له وسر مني ونظر لي بابتسامة فيها الرضا !!!  

   مازلنا نعيش بشغف العيش في أيام رمضان ، نسمع صوت الأذان بحنين الذكرى ، ومازلنا نفطر أنا وأبي وأمي وأخواني وأخواتي ، فقط زادت زوجتي ، وبعد الفطور نعطر أسماعنا بتلاوة القران الكريم ...

   بالإضافة إن شهر رمضان شهر العبادة والدعاء ، ألا أنه عندي منارة الفكر والإبداع ، فأيامه بالنسبة لي قراءة وكتابه ، كنت فيه أتصفح الكتب وأقرأ وأكتب ، فقد كانت سنوات الدراسة التي قضيتها في المدرسة أكثر أيام أخلد بها إلى كتابة الخواطر ، وهو أيضا يعتبر لي روحانية ونيل قسط من الوحدة بالشيء الذي أهواه وهو المكوث طويلا على درب الانجاز ، حيث أعكف على قلمي وأخنقه على صفحات الأيام ، من قديم القراءة إلى جديدها ...

   لا بأس أن أحكي لكم مراقبة أبي وأمي لي عندما كنت صغيرا ، كانا يسألني نفس السؤال :

   هل أنت صابر على الجوع والعطش ؟!!أم أنك تعبت ؟!!

   صحيح كنت أتظاهر بالقوة أمامهما ، كنت أنظر إلى أخوتي الصغار وهم يأكلون ويمضغون (الشبس) البطاطا وقطع من الكعك ، بصراحة كنت أشتهيها ، ولكن في داخلي تحدي لنفسي ، كنت أتعلم الصبر لأن بعد الصبر فرج ، وحتى ساعة سفرة الفطور أنسى إنني كنت جائعا أو عطشا ، يصبح أكلي خفيف وأنا متخيله في لحظة الصيام بشهية كبيرة ...

   حينها خطر ببالي اقتصاد النفس وتقشفها عن اللذات !!!

   آه كم يبكيني منظر المسكين حين جوعه ؟!!

   أحمد الله على النعمة ، وأرثي ما تبقى من طعام ، وألوم بكلمات في القلب حرارة الزخرف والصولجان ، وأثور في الطريق لأصل لمقر طالما زيل فيه الخصام ، نعم أنت يا رمضان ، لك في السمع ذكرى رنين ، وفي القلب أحلى حنين ، ها أنا أسئل الليالي الحلوة :

   كم سهرت بها ببراءة الحلم ؟!!

   كيف قضيت اللعب فيك ؟!!

   كم كنت شغفا بمجالسة الكبار وحكاياتهم اللطيفة ؟!!

   هناك أمي تعجن طحين القمح ، تترقب الأذان لكي تنجز الطعام ، ذاهبة ، راجعة في المكان ، تتبادل مع جيرانها الأطباق ، ما أجمل هذا المنظر ، آه أتحدى به كل الغرب ...

   هل عندهم ممارسة التبادل بالطعام ؟!!!

   ليالي رمضان نجتمع ، نتسامر ، نتعاون ، يرشدنا الكبير بالنصيحة ، أكثر وأكثر من شهور السنة الأخرى ، وسهر لوقت السحور ، آه من أيامك يا رمضان المحبوب ، وعلاوة على ذلك ما بين الفطور والسحور ، بيع اللحم المشهور (أصياخ على الفحم الملتهب) ورائحته الشهية ، وجمعة الزبائن العلية ...

   ماذا أكتب فيك يا ساحر الوجود ؟!!

   مفرقعات وفوانيس من نور ، وقرينشوك الموعود (ليلة النصف) ، وعادات وتقاليد أتمنى أن تعود ، والمسحر بطبلته والأطفال يركضون ويهرولون ببدء السحور ، هذه بعض من جمال رمضاننا ، والكثير في الفؤاد مقبور ...

   في موجة الصدفة التي لابد أن تعلن ، قلت لنفسي !!!

   متى نجتمع نحن العرب على مائدة واحدة ؟!!

   متى نكون يدا واحدة تصفق ؟!!

   متى نتعاون في ما بيننا بالحب والإخلاص بعيدين عن الفرقة والاختلاف ؟!!

   ففي آخر خاطرتي :

   اشتقت إلى طهي و طعام زوجتي الذين يذكرني بمائدة والدتي ، حيث خبز التنور وحساء الشوربة وطعم التربة الغنية بمجلس الأسرة ، وهذا أتمنى أن يمن علينا الله بالصحة والعافية ويبلغنا رمضان في عامي هذا وفي كل عام ...