عتاب قبل الموت !!

عبدالعزيز حسن آل زايد

في قصة حقيقية لأحد أقاربي الموهوبين - قبل عامين تقريباً - تدافعت الأقلام والمواقع النشطة للحديث عنه، لم أستغرب هذه الموجة الساخنة إذ كان هذا الأخير يرقد في غرفة العناية المركز لظرف صحي خطير ألم به، ولكن الأقدار شاءت أن يطيل الله في عمره، فتوقفت هنيئة أتأمل ما جرى، أين هذه الأقلام قبل هذه الوعكة الصحية؟!، لماذا لم يكرم هذا الفد في أيام صحته، حتى إذا اقتربت منه هواجس المنية تسارعت لشحذ الطاقات من أجل لملمة مآثره ومحاسنه في لحظات قاربت ساعة الاحتضار، ولقد صدق الشاعر حيث يقول :

ترى الفتى يُنكر فضل الفتى ما دام حياً فإذا ما ذهب

لجّ به الشوق على نكتة يكتبها عنه بماء الذهب


بل قد يصدق فينا قول شاعر آخر، حينما يكون التنكر في حياة المبدعين وفي التقديس لهم بعد حلول المنية إذ يقول :

لألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودّتني زادا

لقد قبرت الكفاءات ووأدت الورود المبدعة في مهد انطلاقتها،  والأمة التي نعيشها دأبت على تقديس موتاها وأهملت كل كفاءة تتنفس الهواء، يجب أن يموت المبدع ليكثر خفق النعل خلفه، إنه داء عجيب إذ لا يمكن لأرواحنا أن تشيد بذي روح، إنه لون من ألوان الحسد يمخر العقول، فهل سنحتفي يوماً ما بعظيم ينبض فيه قلبه وتتنفس فيه رأتاه؟! هل سنجد منصة يتوج فيها صاحب كفاءة يسير بين ظهرانينا؟! أمة تعشق الأموات كيف لا تكون أمة ميتة؟!

الكفاءات من حولنا تشع بالنظارة، ولكن العيون تلبس نظارات داكنة لا ترى إلا اللون الرمادي، فمتى سترفع الحجب ليصل بصيص النور؟! في مجال الفنون تألق الكثير ولكن قلما نجد الإشادة بالأحياء منهم وهكذا في كثير من المجالات..

ولهذا نجد أن الألقاب تتألق في خاصرة الموت وتموت في ركب الحياة، فنجد أن خناجر الألقاب التي يتزين بها السابقون تطعن في اللاحقين كأنما لا خير فيمن بقي و" ليس في الإمكان أحسن مما كان"، فتلك التراتيل المجحفة  التي تسوق الشئم لمن بقي يجب أن تكنس أمثال : ( ماتت الفضائل بموته، خاتمة المحققين، وغير ذلك من المبالغات)، إن هذه الألقاب تبث روح اليأس في نفوس الجيل اللاحق، ولا تتصل هذه الصحة بالواقع في شيء..

جبلت نفوسنا على تقديس الغائب حتى يحضر، والغريب حتى ينتسب لنا، والبعيد حتى يحل في دارنا، لنصفعه بلكنة يشمئز منها حمام الحي الذي يستحيل أن يطرب !!؛ فبحضوره ولت مآثره ولانتسابه ذهبت مزاياه ولقربه منا ماتت كل محاسنه وفضائله، وهكذا يتفوق الموت على الحياة فإن قيل قد مات الفتى شيدت له ناطحات السحاب من المدائح، فعشقنا عاطفي لا معياري فلماذا نعشق الموتى وتحل اللعنة على الأحياء؟!، فليمت كل مبدع لتناله حظوة التقديس، الموت في حياتنا امتياز يتألق به المتألقون، بل وتصطف المبالغات الخاطئة ويغض الطرف عن أخطائه لكونه ميتاً متشبثين بحديث (أذكروا محاسن موتاكم)!

إننا لسنا ضد الأموات والتذكير بهم، ولكن ليس من الصحة بمكان أن يكون طرف أولى من آخر لكون المحتفى به ميتاً، فقلما نرى ترجمة لحي، بينما تراجم الأموات تزدحم بها رفوف المكتبات، وتتشوق لسماعها آذان الجميع !!

المعيارية في التقديس يجب أن تكون منطقية وثابتة، فلماذا الكيل بمكاييل التطفيف لمن يخالفنا، ونكتال بمكاييل الكرم لمن يهواه الفؤاد، ثم ندعي الحياد والإنصاف فيما نعتقد ونقول، ليس صحيحاً أن الأقدمون لم يبقوا للاحقين شيئاً؛ فللأمة رحم ولاد، لا نهاية للكفاءات والطاقات (ففي كل عصر قائدٌ وإمامُ).