دوخلة الوفاء .. عرس البحر !

الأستاذ / فوزي صادق *

إلي كل من تقع عيناه على رسم كلماتي  .. تحية إجلال معلقة بباقة ورد فواحة ، أهديها لكل أحبائنا وأخوتنا العرب في أقطار العالم، وأينما حطت رحالهم في أصقاع الأرض ، وكل عيد أضحى وأنتم بألف خير .

اليوم أحبتي لن أكون كاتب مقال كعادتي ، بل مراسل وسفير لعيونكم .. فقبل أيام قليلة فقط كنت في معمعة وبهجة المهرجان ، نعم مهرجان عروس البحر ووفاء الخير، أو مايعرف بـ ( دوخلة الوفاء ) فهو  دخول أهالي البحر والوفاء إلي أعماق البحار لصيد اللؤلؤ .. حينها بانت أمامي أهازيج العـرس الكبير.. مهرجانين كوردتين بغصن واحد ، إذ أخذا من قلبي موقعاً لأول نظرة .. إنهما  بمنطقة القطيف العامرة ، وعلى شواطئ الخليج العربي شرق مملكة الإنسانية المملكة العربية السعودية .. حينها كان يعلو رأسي القمر منتصفاً سواد الليل ، وكأنه الشاهد على صدق تقريري .. فقد لاحت بالأفق الأنوار الجميلة ، حتى اختلطت علي وكأنها نجوم السماء قد اختلطت بنجوم الأرض ، أو كثوب عروس حسناء تتربع شاطئ البحر !  تارة أرى طيفها شرقاً بالقطيف ، وتارة غرباً بمدينة سيهات..  وخيام المهرجانين الكبيرة العظيمة بمد البصر ، حتى كادت أن تتلاصق ببعض .

إن كلمة الدوخلة تعني السلة الصغيرة المليئة بالحشائش ، والتي ترمى من قبل الفتيات الصغيرات  خلف سفن الصيد أثناء مغادرتها الشاطئ لصيد اللؤلؤ ، وهن يرتدين اللباس الخليجي التراثي ( البخنج ) ، وهذه عادة عند أهالي الخليج العربي ، وكلمة الوفاء أم للمعنى نفسه ، فهي حب أهلها ووفائهم لبعضهم البعض ، ووفائهم للبحر ، ووفائهم بعطائهم وتعاونهم اللامحدود .

إنه عرس تعانقت وتعاونت فيه قلوب أهالي واحة القطيف قبل تشابك أياديهم .. بمدنها وقراها ، فالكل شارك وساهم لإنجاح كرنفال ( دوخلة الوفاء ) .. من شرق الواحة حتى غربها .. فمنذ وصولي بوابة واحة القطيف الخضراء، وأقصد بها مدينة سيهات الخير ، وإذا بالإنارة الوضاءة قد عانقت السماء ، ولاحت للقادم من بعيد وكأنها تدعوه للقدوم .. أوقفت سيارتي حتى أخذتني خطاي نحو مهجران الوفاء ، وإذا بي وسط الجموع الغـفيرة التي تتسابق لدخول البوابة الكبرى، رجال ونساء وأطفال ، مواطنون ومقيمون ، ومن كافة الجنسيات ، إنه مهرجان للمحبة والعطاء والثقافة ، حيث استقبلت من قبل القائمين على المهرجان وبمعيتهم مصورين ومرشدين، وأخذوني في جولة سياحية جميلة ..  فانتقلنا من فعالية حتى أخرى أدهش وأغرب من سابقتها..إنه انبهار من نحو ما رأيت وما شاهدت ، فسوق التبضع العـربي كبير بتصنيفاته وتنوع معروضاته، وخيمة السيرك ممتعة بفعالياتها المثيرة ، والتي قل وجودها بالمنطقة .. ابتسامات الأطفال لم تبارح محياهم وذويهم ، الكل يلعب ويلهو بمنطقة الألعاب الضخمة ، والكل وبمختلف الأعمار يجد غايته ومكان لسلوته، ولن أنسى روعة العرض المسرحي لفناني المنطقة كالفنان علي السبع والفنان حسين هويدي والفنان سعيد قريش بمسرحية ( شوشرة ) الكوميدية .. لقد أسعدوا الجماهير بعرض كوميدي ناجح يفوق الوصف.. بحق إنه مهرجان للوفاء.. إنه وفاء بتعاون أهله ، وفاء بكرمهم.. ووفاء بتفانيهم كروح الفريق الواحد في الجسد الواحد.

ثم توجهت وقلبي يسبقني إلي جزيرة الثقافة والعطاء بمنطقة القطيف..وقبلتي كانت قلب جزيرة تاروت التاريخية العريقة(سنابس)  ، حتى مررت بجسر حديث يصل بين مدينة القطيف وجزيرة تاروت ، وحتى دخلت حاضنة ( مهرجان الدوخلة ) ، إنها منطقة سنابس الأثرية ، والمشهورة بصيد الأسماك وتجارة اللؤلؤ ، حيث تودع سفن الصيد ( اللنجات ) ، عند مغادرتها البر وإيلاجها البحر ، بدوخلة الوداع التي ترميها الفتيات الصغيرات، وكانت النساء تغرد فرحاً ملئه حزن لوداع الأحباب ، فالرحلة مليئة بالمخاطر ، وربما غياب يطول لعدة أشهر في جوف وظلام البحر، حتى يعودوا بغلة النصر ( اللؤلؤ الخليجي النفيس ) .

أخي القارئ الكريم .. أنا الأن أقف أمام بوابة مهرجان عـظيم وهو ( الدوخلة ) ، فبامتداد بصري يميناً وشمالاً أقله أن أقول الوصف لما رأيت قليل وهظيم ، فدخلت وقلبي يغمره الفرح ، إذا أمامي مجسم لدوخلة عظيمة ، لا أستبعد أن يكون لها رقماً  بكتاب جينيس للأرقام القياسية ، فأستقبلني القائمين على المهرجان بكل حفاوة وتكريم ، وعلى رأسهم رئيس المهرجان الأستاذ حسن آل طلاق ، فرافقني مرشد خاص ومصور ، فتجولنا في أرجاء المهرجان الكبير.. رأيت الناس تأتي أفواجاً من كل حدب وصوب ، مواطنين ومقيمين ، عرب وأجانب ، موظفي شركات وجامعات ، ومن كافة أرجاء مملكتنا الغالية ودول الخليج.

الأن بدأ عقلي يعمل بقانون التزاحم ، فهل أتحدث عن الفعاليات العظيمة ؟ أو عن المردود النفسي والاجتماعي على الزوار ؟
فالقرية الشعبية موضوع كبير ومميز ! ، فمنذ عبورك بوابتها ترجع بكيانك وعقلك للماضي العريق لمنطقة الخليج ، مباني وسكك من الماضي ، مسجد وآثار قديمة وأثاث وحاجيات لأجداد أبناء المنطقة ، ومعرض خاص لرجال الغوص وصيادي اللؤلؤ المشهورين ( النواخذة والطواويش ) ، ثم أخذنا بعاتقنا نحو مهرجان التسوق الكبير ، فرأيت الجزء الخاص بالصناعات الشعبية والفلكلورية ، والتي صنعت وعجنت بأيدي نسائية محترفة ! ، بعدها توجهنا نحو خيمة الرسامين التشكيليين والفنون الجميلة فالتقيت بصديقي الفنان التشكيلي القيادي عبد العظيم الضامن ، ومن ثم وجدنا أنفسنا داخل خيمة الأدب العربي والمحاضرات الأدبية والإلقاء الشعري وكذلك معرض الكتاب، فألقيت نظرة ثاقبة  فإذا الجميع غفير والحضور مثير !

مواقع للألعاب الأطفال الكبيرة ، وتجمع مسرحي للطفل ، فأستقبلتني فرقة VIP للطفل والتمثيل المسرحي ، وأخذت صوراً تذكارياً مع أطفال الجمهور وأمام مرأى الجميع ، ثم أحتسيت الشاي اللذيذ وسط المقهى الشعبي والعريش الكبير ، حيث يتوسط ساحة المهرجان ، وبعدها شاهدت كوكب المشتري عن طريق تليسكـوب الكتروني لجمعية الفلك بالقطيف ، وكذلك قمنا بزيارة لعيادة المهرجان ، حيث تقدم الخدمات مجانية ، ولن أنسى زيارتنا لخيمة ذوي الاحتياجات الخاصة والأكفاء .

في الحقيقة الحدث كبير ويصعب حصره بكلمات موجزة أو تقرير مختصر ، ففي مهرجان الدوخلة مثال لتعاضد وتعاون الأهالي وخاصة أهالي منطقة سنابس الكرام ، ودعم لا محدود من قبل الدوائر الحكومية والشركات الأهلية .. فقد رأيت بنفسي كيف رسمت السعادة في شفاه الكبار قبل الصغار ، وكيف هو الانصهار الاجتماعي والثقافي والاخلاقي ، فالكل هنا حاضر ومشارك ..  فبوركت تلك الأيادي الخفية التي ساعدت وشاركت في إنجاح دوخلة الوفاء ، والفرق بين هذه المهرجانات وغيرها من مهرجانات الغرب التي حضرتها ، إن هنا القلوب والأيدي متكاتفة كقلب واحد ويد واحدة ، أما هناك فالريموت والآلة هما أداة العمل وقـلب الحدث ..

 بحق رأيت هنا كيف تراقص البحر وغنى بصوت أمواجه  معاكساً ضفاف الخليج .. بحق إنه عـرس البحر .

روائي وباحث اجتماعي