دموع مسؤولة

عبدالعزيز حسن آل زايد

قد نختزل أشخاصاً لهم امتدادهم الخالد في التاريخ، لجهلنا أو عدم معرفتنا وإطلاعنا بكل زوايا الشخص، فجزء الصورة لا يعكسها كاملة، ولعل المساهمة الأموية في محو آثار الأنبياء وأبناء الأنبياء لها مفعولها، إلا أن الله أقسم أن لا يمحى نوره بتثاؤب أفواهٍ كسولة وواهنة كشقائق العنكبوت،  لم نعرف عن السجاد غير الدمعة الخانقة والبكاء المدوي، وهذا من جناية التاريخ وأصابعه الملوثة بالبتر والملطخة بالتزوير والتلفيق والكيل بمكاييل السبعين حرف، وإن كان له بفاطمة حنكة في مطلع فدكيتها الشهيرة..

رغم كون الدموع رصاصاً في وجوه الأعداء، إلا أن انسكابها لم يكن مفرغاً من المحتوى، فلكل دمعة لون وطعم ومذاق، لنطالع صحيفته السجادية المتألقة، لنشاهد تلك الأبحر التي لا تنفذ لكونها من محبرة الرب المتعالي، وفيوضات الكرم المقدس، كان يحرض الأمة بين طيات سطوره ودموعه النهضوية، فدعاء الثغور له إشارات واضحة وفاقعة الدلالة في الكيد بأعداء الشريعة الغراء، وهكذا ظهرت من خلاله كثير من الثورات المدوية كحركة ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي، وثورة المختار بن عبيد الثقفي للاقتصاص من أعداء آل محمد ، وحكاية المنهال واضحة المعالم في الحث على جريان الثأر لمجزة كربلاء الدامية، في هذا الدعاء لفتات ذكية ومعاني تكشف عن تضامنه مع تلك الثورات إذ يقول في دعائه لهم : (وكثّر عدّتهم، واشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألّف جمعهم، ودبّرأمرهم، وواتر بين مِيَرهم، وتوحّد بكفاية مؤنهم، وأعضدهم بالنصر وأعنهم بالصبر،والطف لهم بالمكر)، إن شحذ الأسلحة، وتكثيف الحراسة، وإحلال الألفة، وحسن التدبير، وكفاية المؤن، والتدرع بالصبر، واستخدام الحنكة والمكر، كلها وصايا منه وخطابا دبلوماسيا مبطنا منه لقادة الجند، إنه صاحب المسؤولية العظيمة، فحراكه متفاعل في ظرف يصعب فيه الهمس، إلا أنه قالها بإبداع..
 
 لم يكن بكاءه رخيصاً بارداً مشلول الإرادة يقبع للركون والخنوع في المحاريب كما تستر بذلك البعض ممن انخلع عن المسؤولية كما ينخلع الثوب عن البدن، لم يكن انتحابه اجتراراً للآلام وتوغلاً في المصيبة كما تصنع الثكلى ويتوهم البعض، إنما كانت دموعه قنابلاً يرشقها بلحظ عيونه الذهبية، وكلماته السحرية الفتية العذبة، فله بكل مناجاة دواء يعالج به مرضى القلوب، صيدلية كان يداوي أصحاب المرض العضال إذ كان هو الطبيب الدوار بطبه، كما كان جده المصطفى ..

 مارس السجاد ألوان متعددة، فصاغ أصحاباً أفذاذ يتكأ عليهم في الشدائد كحمزة الثمالي وغيره، فها هو يأخذه بيده ليلقي في جعبته مدرسة الدعاء العظيم (دعاء أبي حمزة) كما فعل جده علي لكميل بن زياد النخعي (رضي الله عنه).. إذ أن له في كل مكان موقف، وبكل زاوية توقيع ومداد حتى في سوق الجزارين، وفي محضر الضيوف، وبين الصلاة..

 السجاد كان درساً يعلمنا فلسفة الحياة كما صدح بها جده الأكبر إبراهيم الخليل : " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، فكل لحظة كانت زهراً، وكل دقيقة كانت عطاءاً، يتفانى في خدمة الخالق والتزلف له؛ فالحياة عنده كلها صلاة ونسك، كان يضع نقاطه العبقة فوق الحروف بإتقان وتفاني وإخلاص، وفي روايته للشبلي تجلى تعليمه للإخلاص بمقطوعة منقطعة النظير، بقوله له : " أرجع فإنك لم تحج !! "، مدرسته ترفض اليأس، إنما هي المحاولة حتى الوصول، فهل سنرجع كما أمر، فحج الحسين غاية الألق، فهل سنكون معهم أم أن اليأس نخر قلوبنا الصدئة؟!