دموع وحوض سمك

أراقب الطيور كل مساء عند اقتراب غياب قرص الشمس الكئيب، أحدق في شجرة المنزل التي غرست بيد خالق قدير في وسط حديقة غناء، اشرأبت أغصانها لتنشر الهدوء والظلال بأوراقها على بقية الزهرات المنتظمة في حديقتنا، أنها الأب الحاني لكل الطيور، لكل النباتات لكل الحشرات والفراشات البريئة التي تتفيئ تحت أغصانها الوارفة من ألسنة الشمس وقت الظهيرة، هذه الشمس آذنت بالغروب تلملم ما تبقى من أشعتها، إلا أن الأطيار الجميلة بدأت عزفها بلحن ملائكي كئيب، أراقب تلكما العصفورين اللذين يتراقصان، أدركت أنهما زوجان للنظرة الأولى، فالخط الأسود الذي يطلي أعلى رقبته كسواد لحية رجل شهم صبغته بالهيبة والشهامة ليتألق بهاء بين الطيور، وهذه العصفورة التي تتمايل كالغيداء تقترب من عريسها بهيام فيلاحقها من غصن لآخر كفتاة عذراء لتوها تتذوق طعم الزواج..
فتحت ما تبقى من نافذتي لأتأمل فتون الله في سحر هذه الغابة الصغيرة، وأنا هنا كأميرة مسحورة، تنتظر الفتى الأمير لينقلني بجواده الأبيض كما هي عادة الحكايات الطفولية التي تنتهي بالغرام !
آآه .. متى يلعب النرد السعيد حظه بالبهجة في حياتي؟!، متى يطوقني فارس أحلامي بما يهواه الفؤاد؟!، متى سينفك هذا السحر وتبدأ حظوظي بالانتشاء؟!، لقد سئمت هذه الجدران وهذه الأسقف، رغم فنائها الواسع الكبير ..
خالطني شعور بالإحباط، حكايتي ليست من أفلام الخيال، لأمتطي صهوة الجواد برفقة الأمير الوسيم، حكايتي متعثرة ينغصها هذا الشيب الذي بدأ يتسلل كأفعى ملطخة بالشؤم والرعب والأياس ..
طرقات بابي التي تعودتها هي التي أفاقتني من أحلام يئست مني لفرط كابتي، جلس في المقعد الموازي لمقعدي، وقال لي وابتسامته حفرت في قلبي بصيص أمل يخالجه شؤمي الذي تعصره توقعاتي الحزينة أن لا يتم ما أبتغيه :
" ابنتي، سيقدمنا اليوم رجل يريد الزواج منك، فماذا ترين ؟! "
أريد أن أبصق في وجهه هذه الدنيا، ومتى كانت تبتسم لي؟!، أريد أن أركلها بقدمي فمتى مدت لي يد العون والسعادة؟!،  أردت أن أقول أني لن أتزوج، ولن يحلو لي العيش، إلا أن دموعي سبقتني بالكلام.. أحس والدي بما يعتلج في صدري من هم وألم، بعد طول صبر وتراكم أحزان،أكد لي بهدوئه الرطب، كطبيب يدرك حجم الألم والجراح :
" الخبر مؤكد يا بنيتي، وسترينه في تمام الثامنة .."
انصرف ودوامتي لا تزال تعصف بي، كأوراق خريف يابسة في يد ريح عاتية لا يهدأ لها قرار، ونهران عميقان كنهر الأمازون قد تفرعا من مقلتي الشاحبتين ليغسلان كوادر الأعوام، فتحت النافذة التي أغلقتها قبل قليل، لتهب نسمات أدخلت على قلبي بصيص أمل وما عدت أرى قرص الشمس حينها، ولا سحر تلك الطبيعة الخضراء تحت أشعة الأصيل سوى همسات عصافير بدأت تتضاءل بالتدريج  تستعد للفراش ..
نفثت ما في قلبي من توعك في الهواء كأن بيدي سيجارة متقدة، كما تصنع عصابات البنات المشاكسات، وقرب حوض السمك رفعت الغطاء عنه لأغسل ما تبقى لي من دموع !