مقهى السيد بالإحساء !

لو علم الجواهري وحافظ والشابي بمقهى السيد .. لاستوطنوا الإحساء!
ليس تملقـاً وهـرباً من دفع الحساب ، ولا بجر النار إلي قرصي كون مسقط رأسي بهذه المنطقة .. لكنها الحقيقة إخوتي القراء العـرب .. هكذا خرجت آهات فؤادي وأنا أنتشي خلجات فكري بإحدى زوايا مقهى السيد بالهفوف ، الذي يتربع بواحة الإحساء الخضراء شرق المملكة العربية السعودية ، حيث تذكرت الأزلام أصحاب الأقلام ، كحافظ إبراهيم والجواهري وأبي القاسم الشابي ، وهم يحتسون القهوة بمقهى الفيشاوي و مقهى ريش بالقاهرة القديمة.
مع ُجل احترامي لتلك المقاهي ولأصحابها الكرام ، ومع ثـقل السمعة والشهرة التي جابت الخليج حتى المحيط لتلك المقاهي .. إذ لم يوجد في ذاك الزمان سواها ، فاحتكرت التاريخ والزمن والشخصيات ، وأخذت من مرتاديها الشهرة وليس العكس ! والسبب طبيعي ! ( لأنهم مشهورين فعلاً  ولهم ثـقلهم الثقافي والسياسي  والاجتماعي ) فمنهم سعد زغلول ، وعبد الناصر ، وجمال الدين الأفغاني ، ونجيب محفوظ ، وحتى رؤساء الدول العربية المخضرمين والموجدين حالياً . فالاحتكار التاريخي والسياسي والزمني أعطى تلك المقاهي الفرص الذهبية للشهرة ، ولو علم كثير منهم بما وجدت هنا ، لم ولن يرفضوا قولي. 
 لما لا ! ومعظم تلك الشخصيات تحمل الحس الكبير والتقييم العميق والعادل لمعاني الأمكنة والأزمنة ، فمقهى السيد بالإحساء ليس مجرد أعمدة وجرار من الزجاج المصفوفة خلف طاولتين بزقاق بعرض مترين !
وسأقولها باللهجة المصرية ( المية تكـدب الغطاس ) ، فبمجرد دخولك بوابة مقهى السيد بالإحساء ، ستعود بجسدك وروحك إلي الزمن الماضي ولعدة قرون ! ، وكأنك في حارة من حارات المدن العربية العتيقة ، وفي زمن أسلاف الأجداد الماضين !
هنا لوحة عريقة رسمتها أصابع الزمان ، ودهنتها دموع المشتاقين والمهاجرين ، هنا تزاوج بين القيم والتقاليد والثقافات ، حيث يحتضن ويرحب رجال الإحساء بزوارهم من المواطنين والمقيمين عرباً كانوا أو أجانب .. إنها وجهة لمرتادي المنطقة من السياح والمصطافين من أبناء الخليج .. فإن رغبت في تسميته مكاناً للتسلية فيّحـق لك ، وإن رغبت في تبادل الهموم والأفكار والحوار الجاد مع أحبائك وأقربائك فسيتحقق مرادك .. هنا المسنين يخالطون الشباب أدبياً وعلمياً لتلقيح أفكارهم كاختلاط واختلاف أزمانهم ، وهنا الأجداد ينقل للأحفاد قصص الماضين والسابقين .. لذا أصبح هذا المقهى هدفاً للكثير من أبناء المنطقة كافة ، ومكاناً محبوباً ومفضلاً للصفقات الثقافية والاجتماعية وصلة الأرحام ، ومرتعاً خصباً للقاءات الشبابية .
كيف لا ! وأمامنا أرشيفاً كبيراً وأصيلاً لحضارة أمة الخليج العربي ..  وكيف لا ! وهنا نشتم رائحة حروف وكلمات ُبصمت بلبنات الطين العتيق ، وُنقشت بقلوب الأجداد والأحباب الماضين .. صحيح أبعدهم الزمان عنا ، لكن نراهم متجسدين هنا !
مقهى السيد في صراع البقاء وإثبات الوجود مع عجلة الحاضر .. فمنذ أن وجد العثمانيون فكرة المقهى في القرن السادس عشر ( الشاي خانة ) وأعداد صالونات المقاهي في انتقال من دولة إلي أخرى ، ومن زمن إلي زمن .. ولكن قلما تجد  مقهى يعرض أرشفة للزمان والتاريخ والشخصيات كمقهى السيد بالإحساء  ، أراهنك إن حضرت هنا ولم تتذكر مقولتي ، وأراهنك إنك ستنسى فكرتي وستضيع بين شربك لإستكانة الشاي المُخدر ( كوب عراقي ) ، وأكل الباجلا ( الفول بالطريقة التقليدية ) ، والتلذذ برائحة  الخبز العربي .. هنا تتجسد حقبة تاريخ عربية عريقة بقوة وشموخ أمام عصر الحداثة والفاست فوود   .
كم تمنيت أن أسمع أصوات الماضين تقدح أصوات المعاصرين ، وكم تمنيت مقامات العراق الأصيل تراشق وتداعب سعفات نخيل الإحساء ، حقاً سأجد لوحة عظيمة من لوحات الحراك الثقافي العربي ، وحقاً سيكون لي شرفاً إهداء صورة وثائقية لذاك التجسيد الجميل لكل وزير إعلام سأقابله بجانب مؤلفاتي .. هنا أحدثكم أنا فوزي صادق من مقهى السيد بالإحساء ، حيث سمعت بأذني كيف قاطع صوت الشاعر جاسم الصحيح حناجر الجواهري والشابي وحافظ إبراهيم ، ولن أنسى مقولة السلطان العثماني الشهيرة : أجمل الأوقات كانت ليال هجر ( أي الإحساء ) ونهار إستانبول  .
روائي وباحث اجتماعي