آلام عجوز

 

حائر في عمره، أين يذهب وماذا يصنع؟

 يتأمل فواتير الماء والكهرباء والهاتف بمرارة دسها في جيب سترته المهترأة، وتذكر الفواتير الأخرى التي لم يدفعها لأصحابها، فالآجار ارتفعت أسعاره، والأطعمة التهبت مبالغها، أمست الفاكهة ذهباً وأحجاراً كريمة في ناظريه،  لم يدخل منها في جوفه حتى تفاحة واحدة طيلة ستة أشهر مضت.. أخذ يرمق الموز المتدلي  في محل الفاكهة وبرق الشمس زاد من فتنته، أشاح بصره ليقع على الرمان والكمثرى.. استعاذ بالله من شر الشيطان وأطرق عينيه إلى الأرض  ليطالعه البطيخ السكري الذي أفقد أعصابه، دون قصد صافح العنب المتكأ بطريقة مغرية، يعلم جيداً أنه لن يشتريه؛ بعفويه  سأل البائع عن السعر، وابتلع ريقه واجماً من هول الصاعقة.. وضع يده في جيبه وجر أقدامه الحافيتين يائساً من هذه الدوامة التي لن تهدأ ..
 شاهد العمال يكدحون دون توقف  في الناحية المقابلة بمطارقهم، أحس أن المطارق فوق رأسه دون توقف، فرّ من طقطقتها لتطالعه جريدة معلقة أمام محل التموينات ووقف عندها لكونه لا يجرأ أن يدخل فهو لا يمتلك قيمة رغيف !
عبثاً راح يحدق فيها وكأنه ممن يتقنون القراءة، اكتفى بالنظر إلى صورة الرئيس الذي يقف أمام سيارة فارهة وابتسامة عريضة يطالع بها كل القراء، لم يحتمل القهر المنحبس في أضلاعه ومن دون إرادة اجمع كل ما في قلبه وعقله وكيانه من ألم ليبصق فوق تلك الابتسامة الساحرة .. خرج له صاحب المحل كالعفريت ..
" هيه .. أنت.. ماذا تصنع ؟..أتلفت الصحف .. ألم تجد مكان غير هنا لتفرغ  نخامتك ؟!"
هرول مسرعاً حتى لا تناله العصا التي كانت في يده؛ ليرتطم باب مطعمٍ كان بالقرب منه، شاهد الدجاج معلقا في أوج تحميره ولحوم أخرى تشوى بطريقة دائرية مثيرة.. الدخان الشهي يصفعه دون رحمة،  لم يتمالك اللعاب أن سقط لا اختياريا من فمه واستجابت معدته بالعزف الأوتوماتيكي استعداداً للانقضاض.. وضع يده على بطنه حتى يكبت أنفاسها عن الفضيحة.. ويده الأخرى في جيبه تفتش عن شيء  تخرس هذا الداء العضال.. علبه سيجار لم يتبقى منها غير هذه السيجارة الوحيدة ولم يجد عوداً لإشعالها.. أقترب من عامل المطعم ..
" لو سمحت أشعلها .." وعيونه برفق ورجاء تستحثه..
نهره بشده مشيراً للوحة رسمية معلقة مكتوب عليها " ممنوع التدخين "..
طلب من بعض الزبائن فلم ينفقوا عليه غير ابتسامة السخرية، وأكتافهم مرفوعة  بالنفي لا يمتلكون ..
وقف أمام إشارة السير، يستجدي عود ثقاب، فلم يجد مدخناً بينهم .. أشار عليه أحدهم إلى محطة البنزين ..
" هناك مدخن .." والمنبهات تلاحقه من الخلف أن تحرك.. لم يفهم ما قصده ؟! وبعد لحظة.. أفاق من الدوار لتلمع في عقله أن يشعل سيجارا بسيجار ..
وصل متأخرا وقد سحقت السيجارة المتقدة.. تخيل نفسه مكانها في تلك اللحظة، ونُفث الدخان من الأنف، أجابه مبتسماً " لا أمتلك كبريتاً "،  أدرك أن الزمن يسخر منه، حالة من الاستياء والجنون تعتريه ..
هدأه الأخير قائلاً :
" هذا السائق لديه قداحة .."
 وأخيراً أمسكها.. لم يوقد السيجارة بل رمى البنزين فوق نفسه وأوقدها معه !