ظاهرة الفرعونية

 

يزخر القرآن الكريم بالدروس والعبر لـ(الراغبين) في النهوض. فقد سرد لنا قصص عديد من الأمم والشعوب، وسبر أغوارهم، مبيِّناً أسباب إخفاقاتهم الدنيوية والأخروية طبعاً. فهل نقف عند السرد التاريخي ؟ أم أن الحكمة، والدور الوظيفي للقرآن، يفرضان تجاوزه إلى تلمس العبر وتمثلها في واقعنا المعاصر ؟
ومن تلك الدروس ما ساقه الله عن (الفرعونية) التي هي - في جوهرها - ظاهرة استبداد إنساني في حقبة تاريخية معينة، يمكن أن تتكرر في حقبة أخرى. وكان من معالم تلك الظاهرة:

1 – الشعور بالتضخم على مستوى الذات
لقد كان الـ(فرعون)، وهو شخص في تلك الحقبة، (ظاهرة) عبر التاريخ، تأكد في نفسه الشعور بتضخم الذات على مستوى مبالغ فيه، حتى قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعـات/24]. وبطبيعة الحال، فإن لمقام الربوبية الحقيقي، أو المزعوم، استحقاقاتٍ، يأتي في مقدمتها (حق الطاعة) لهذا (الرب) فلا مجال لمخالفته، ولابد من طاعته. وهذا الحق المطلق، حينما يعتقده (الإنسان) في نفسه، يؤسس لـ(الاستبداد)، الذي هو مصادرة رأي الأخر، انسجاماً مع واقع الربوبية، الذي يستبطن الأولوية على مستوى الوجود.

2 – الشعور بالفوقية الفكرية
كان الـ(فرعون) يعتقد في نفسه (التفوق) على مستوى الذات، ليؤسس لنفسه (فوقية) على مستوى المجتمع. لذلك فلا مجال لمعارضة ولا مخالفة، وشعاره ومنطقه ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر/29] فرأيه - في ما يزعم - صواب دائماً، وسلوكه حق بالمطلق. وبطبيعة الحال، فإن هذا المنطق يعني حق مصادرة الرأي، لأن العاقل إذا خُيِّر بين الخطأ والصواب، وبين الحق والباطل، فسيختار الصواب والحق.
فإذا وضعنا بعين الاعتبار أن القرآن ليس كتاب سرد للتاريخ، وإنما هو كتاب هداية وتوجيه، فلا يمكن أن يحكمنا شخوص الأحداث التي سيقت، لأنها ليست سوى (رموز) تعبر عن (ظواهر) لبشر، وجدوا في تاريخ ماضٍ ويمكن أن يوجدوا في أي حقبة من حقب التاريخ.
وعليه، فالفراعنة السابقون (نماذج) لظاهرة (الفرعونية).

بعد هذه المقدمة أقول:
ليس مجانباً للصواب القولُ إن العالم الإسلامي، في مجمله، محكوم بـ(الفرعونية). لأن من يتولى شؤون الحكم، أياًّ كان العنوان الذي اختاره لنفسه، وأياًّ كانت الطريقة التي جاء بها إلى الحكم، يعتقد ويمارس منطق (أنا ربكم الأعلى)، كما أنه يعتقد ويمارس مقولة (ما أريكم إلا ما أرى ولا أهديكم إلا سبيل الرشاد).

وإذا كان هذا هو حالنا فليس مستغرباً أن يلم بنا ما ألمّ؛ من :
أ - مصادرة للرأي (التفكير).
وهو نتيجة منطقية، لاعتقاد المظهر الفرعوني بأنه الأقدر على فهم الواقع والتنظير له، ولسان حاله ﴿لا أريكم إلا ما أرى، و ﴿لا أهديكم إلا سبيل الرشاد.
ب – مساءلة على التعبير، وفي مرحلة متقدمة معاقبة على التعبير.
وهو أيضاً نتيجة منطقية لاعتقاد المظهر الفرعوني بأن له وحده الصلاحية لاتخاذ القرار فلسان حاله ﴿أنا ربكم الأعلى.
جـ - وينتج عن هذين الأمرين الحرمان من المشاركة في التدبير للشأن العام.
لأن المشاركة، في نظر (فرعون)، انحراف فكري وعقدي تارة، وهو تمرد على الشرعية تارة أخرى، وهو الأمران معاً تارةً ثالثةً.

بهذه الآفات الثلاث يُدار عالمنا الإسلامي، والعربي خصوصاً. وعليك أن تتصور مدى التخلف الذي سيحدق بعالم مصاب بثلاث آفات تكفي الواحدة منها في تدمير أي مجتمع. (والنحاة يكتفون بعلتين للمنع من الصرف ! فكيف إذا زادت).
وإذا أضفنا إلى ذلك ما يشعر به المواطن ، الفرد والجماعة، من إحباط ناتج من حالات الانسداد، الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، التي هي الثمرة الطبيعية للحالة (الفرعونية)، فإن الأفق سيكون مظلماً والطريق ستكون شائكةً.

فنحن، إذن، ليس بين خيارات عدة لنا أن نختار بعضها ونهمل الأخرى، وإنما هو خيار واحد ﴿لا أريكم إلا ما أرى.
 يمر عالمنا الإسلامي، وأقطاره العربية خاصة، بمنعطف خطير، يمكن تصنيفه ضمن أخطر مراحله التاريخية. فما يعصف به من إحن ومحن، وما يعانيه من أزمات ومشكلات، يفوق الحصر والعد. والأنكى في الأمر أنها تفوق، في تعقيدها وتشابكها، إمكانياتنا المتواضعة في حلها وتجاوزها سريعاً. فإذا أضفنا إلى كل ذلك حس العجلة الذي يسيطر علينا إذا ما كنا بصدد البحث عن الحلول، فسيزداد الأمر سوءاً. فما هو الحل إذن ؟

ففي ظل أجواء بوادر (فتنة مذهبية)، يذكي أوارها الأعداء من الخارج والسفهاء من الداخل، كيف يجب علينا أن نفكر؟
وفي ظل تخلف تنموي مرعب كيف يجب أن نتصرف ؟
وفي ظل تمزق قُطري جعل الأمة شيعاً وأحزاباً و ﴿كل حزب بما لديهم فرحون، كيف لنا أن نصنف أنفسنا (أمة) ؟
وفي ظل استبداد سياسي خانق، كيف للمرء أن يفكر؟ فممنوع عليه أن يقيم مؤسسة، أو يؤسس منتدى فكرياًّ، أو يقيم رابطة أدبية ... فضلاً عن حزب سياسي، إلا بإذن الحاكم، الذي يفترض أن يكون للمواطن حقُّ مخالفته ومعارضته، ضمن القانون طبعاً. لكن القانون، في الحالة الفرعونية، لا يسمع بـ(المعارضة) إلا التي تسبِّح بحمده وثنائه. ولك أن تتصور كيف يسوغ تسميتها بـ(المعارضة)؟ ولو استطاعت (المعارضة) أن تصل إلى المجالس الانتخابية، ومنها إلى جسم السلطة، فإن القانون يتيح لمن صاغه أن يعيد صياغته، لأنه اكتشف أن ثمة ثغراتٍ يجب سدها، لئلا تتيح مجالاً لميكروب (المعارضة) أن يصيب الجسم بالتعب والنّصَب.
أسئلة أثيرها للسعي، معاً، في البحث عن حلول قد تكون مرّة، وهي صعبة بلا شك، غير أنها مهمة ضرورية ضرورة النهوض من الكبوة والنكبة والنكسة.

ملاحظة: المقالة حررت قبل حوالي سنتين غير أن موانع حالت دون نشرها، فلما أن سقطت بعض مظاهر الفرعونية في عالمنا العربي، وبالتحديد في تونس ومصر، ارتأيت نشرها.