المثقف: بين أن يكون داعية تواصل أو يكون داعية قطيعه

"عليكم بالتواصل والموافقة، وإياكم والمقاطعة والمهاجرة" الإمام عل


الثقافة ليست أداة قطيعه وانعزال، بقدر ما هي أداة تواصل وتفاعل وانفتاح. فالعلم والمعرفة والثقافة يجب أن تكون وسيلة للتواصل والتفاعل مع الناس، والعيش معهم ومعرفه همومهم، وبالتالي المساهمة في انتشالهم مما هم فيه من تردي وتخلف وعوز ووضع مهترئ، ومن ثم تهيئه الأسباب التي ترفع من مستواهم، وتنقلهم إلى أوضاع أكثر تقدما ورقيا، يتحقق لهم فيها العيش الكريم والحياة العزيزة.

فالمثقف الملتزم بقضايا أهله وناسه، والذي يفترض أن يكون ضمير الناس، وصوت الحق، ويحمل مشاعل التنوير، وينير ظلمة الدروب، يمكنه من خلال التواصل التأثير في محيطه، وذلك عبر الانخراط بفاعلية في مناقشة أفكارهم وهواجسهم، وتوجيه دفة حركة الناس وترشيدها لمصلحة الأفكار الخلاقة، والترويج للأفكار النيرة، والدعوة لتبني قيم الحق والعدل والكرامة والحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من قيم ومثل، متجردا في دعوته من كل مصلحة ذاتية ضيقة.  

عندما يختار المثقف لنفسه العزلة والتقوقع على الذات، ظنا منه أن علومه ومعارفه تجعله ينتمي إلى جماعة النخبة، فإنه بذلك يعزل نفسه عن القدرة على التأثير، فالنخبوية لها أمراضها وتبعاتها، عندما يتجاهل من يسمي نفسه بالنخبوي قضايا مجتمعه الأساسية، وترتفع إلى سلم أولوياته القضايا الهامشية، فيحولها إلى مشاريع جدل وسفسطة لا أول لها ولا آخر، عندما ينحصر تفكيره وفعله في مناقشات صاخبة يتصور أنه من خلالها يطرح ويخضع إشكاليات الأمة وقضاياها تحت مبضع الكشف والمراجعة، سعيا كما يعتقد إلى التجديد والتطوير فيها. وعندما يسود الجدل الصاخب والسفسطة العقيمة يتحول ما يمكن أن يكون فعلا مشروعا ومُهما من أجل تطوير العقل وإمكانياته إلى مشروع خاسر، يؤدي إلى تعطيل وقتل العقل وإمكانيات النهوض به وتطويره.

هناك وهم كبير يقع فيه المثقف عندما يخلط بين القطيعة مع ثقافة التخلف والقطيعة مع المجتمع. ففي القطيعة الأولى هناك خط فاصل يجب أن يكون واضحا بين ثقافة الوعي والتقدم والنظر إلى الأمام والبحث في الآفاق من جانب، وبين ثقافة التخلف والانحطاط والركون إلى الماضي البليد من جانب أخر. والمطلوب من المثقف هنا أن يحسم خياره وموقفه لصالح ثقافة الحياة والتجديد والتجدد ويمضي قدما في مراكمة الوعي على طريق نضاله من أجل ثقافة أفضل وأبهج.

أما القطيعة الثانية فهي القطع والقطيعة مع المجتمع ذاته، فالمثقف يقرر بوعي أو من دون وعي قطع علاقته وصلته بالمجتمع، وينكفئ على ذاته منعزلا عن أهله وناسه، مستأنسا بوحدته، فتمتد به الأيام والسنون وتتعاقب عليه الأجيال جيلا بعد جيل، وهو يجهل اهتمامات هذه الأجيال وهمومها وقضاياها، ويفقد مع مرور الزمن القدرة على التواصل والتعاطي بفاعلية معها.

إن هكذا مواقف انعزالية وإنطوائية من المثقف تجعله يخسر نفسه ويخون وظيفته، في الوقت الذي يخسره مجتمعه أيضا. والمحزن أنه لا يكتفي بعزلته ويصمت، بل تراه يسلط لسانه وقلمه قذفا وتقريعا بهذا المجتمع، بحجة عدم تفاعل المجتمع معه وعدم اهتمامه به وبما يطرح ويقول، موجها أصابع الاتهام لمجتمعة في أسباب انكفائه وعزلته.

إن هذا الموقف المتعالي من المثقف تكسبه عداوة مجتمعة وسخطه، وفي أحسن الأحوال لا مبالاة الناس به، مما يزيده عزلة وانحسارا، وتجعله سجينا في صومعته المعزولة. أما عندما ينخرط المثقف في صفوف مجتمعه محتسبا وحاسبا نفسه جزءً منه، ومتعايشا مع همومه وقضاياه، وساعيا من أجل تحرير أفراده من إصرهم والأغلال التي عليهم، فإنه بذالك يكسب ود مجتمعه واحترامه، ويرفع من قيمته ومكاناته وسط صفوف جماهيره، فتعطيه المكانة والموقع الذي يستحقه.

قطيعة المثقف مع المجتمع تعني بكل صراحة ووضوح أنه يفقد دوره وفاعليته وقدرته على التأثير في وسط اجتماعه البشري، فبدلا من أن يكون الدينمو والفاعل وسط المجتمع، والمحرك لمياهه الراكدة، والناشط الذي يقلّب الأفكار ويختبرها ويدفع بها إلى الأمام من موقع العضو الفاعل والنشط من داخل البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، تراه بدلا من ذلك وبسبب عزلته وانكفائه يجرجر أذيال الخيبة والفشل لسوء علاقته وضعف تواصله مع المجتمع، وعدم قدرته على سياسته وإدارته، رغم كل ما يمتلكه من قدرات وإمكانيات تجعله مؤهلا للقيام بأدوار بنائه وجليلة في خدمة المجتمع.

إن المثقف يخدع نفسه بسلوكه طريق العزلة والتقوقع على الذات والقطيعة مع بيئته، عندما يحسب نفسه أنه أصبح من علِيّة القوم ونخبتها المميزة بالعلم والثقافة والمعرفة. فقد آن الأوان له أن يتواضع ويصحو من أضغاث أحلامه وأوهامه، ويدرك أنه من المهم والضروري أن يكون لوعيه ولثقافته ولتراكمه المعرفي فعلا دافعا وأساسيا لتحمل المزيد من المسؤولية، ومدعاة للانغماس بشكل أكبر وأوسع في شؤون المجتمع وقضاياه، وأن يكون أكثر حرصا على خدمته ومساعدته في إبداع الطرق والوسائل التي تيسر له، وتسهل علية سبل التفوق والرقي، في ظل أي تحديات يمكن أن يمر بها المجتمع، ومهما كانت المصاعب والمصائب والصعوبات التي يواجهها.

إن المعادلة الصحيحة التي على المثقف أن يضعها نصب عينية ويلتزم بها، هي أن التراكم المعرفي لا يعني إلا المزيد من التواصل والتفاعل مع المجتمع، والمزيد من الجهد والعمل في خدمته. أما المعادلة الخاطئة التي على المثقف أن يعيها ويحذر من الوقوع فيها، فهي أن التراكم المعرفي لا يعني القطيعة مع المجتمع وقطع الصلة به. وهنا يأتي الفرق بين موقع المثقف المنعزل وموقع المثقف المتواصل، فالتواصل هو فن التعامل مع الواقع بكل أبعادة وعناصره ومكوناته، وإذا لم يتمكن أو يعرف إجادة هذا الفن فإنه من السهل عليه أن يَقنع بدور المثقف المنعزل الذي يدعي لنفسه الثبات على الموقف المبدئي والطهوري البحت، ويقبل بعدها لمجتمعه بكل ما يترتب على عزلته من تبعات.

يجب أن يعمل المثقف الملتزم بإخلاص كبير لقضيته، وأن يقدم التضحيات من أجلها. فالمثقف الملتزم بقضايا مجتمعه والمتواصل معه يستطيع من خلال حركته ونشاطه وروحة المتواضعة أن يكون أقوى من أولئك القابعين في بروجهم العاجية الذين عندما يكتب أحد منهم مقالة يظن أنها ستغير العالم في اليوم التالي. المثقف الملتزم يستطيع بتعبه وصبره وتضحياته أن يخترق المجتمع حتى النخاع حين لا يتعالى على أحد من أبناء المجتمع أو يتكبر علية، فيستطيع بذلك أن يوصل صوته ورؤيته بل ونقده، كما أنه باستطاعته أن يوظف الإمكانيات الاجتماعية المتاحة والمتوفرة كي يوصل صوته إلى المجتمع، ويكون صوته هو الصوت الأقوى.

إن المثقف الحقيقي هو الذي يعرف كيف يميز ويتبين حدود الخيط الأبيض من حدود الخيط الأسود، ويرسم لنفسه حدود القطيعة، والحدود التي يرسمها للتواصل، كما يعرف متى وكيف يحرك هذه الحدود والخطوط في هذا الاتجاه أو ذاك، حسب ما تقتضيه حاجة الدور وتفاعلاته. لقد أضحى تواصل المثقف مع مجتمعة ضرورة ملحة تقتضيها مهمة المثقف وأدواره الاجتماعية التي عليه أن يؤديها بكل عزم وإخلاص.

والتواصل الذي نعني ليس التواصل السطحي المادي الظاهري، بل التواصل التفاعلي وما يترتب عليه من نتائج تؤدي إلى سبر أغوار المجتمع والغوص في أعماقه من أجل فهم ومعرفة منظومة الأفكار والقيم الاجتماعية التي تحكم المجتمع وتسيره، ليتمكن المثقف عندها من تعرية وفضح وتفكيك البنى الاجتماعية السلبية والمتخلفة، ومن ثم المساهمة في بناء منظومة قيم وبنى اجتماعية مختلفة وجديدة، تدفع بالمجتمع إلى النهوض والحركة والديناميكية، وتجاوز حالات القطيعة والركود والرقود والجمود والتخلف، في عالم أضحت المتغيرات تحدث فيه بوتيرة عالية السرعة.

فهل يدرك المثقف ويعي أهمية وقيمة التواصل وضرورته من أجل خوض غمار التغيير والإصلاح من داخل المنظومة الاجتماعية وشبكتها الداخلية، عوضا عن محاولات التغيير من خلال الصراخ والعويل وتسليط اللسان من سطوح الأبراج العاجية؟

إن توجيه النقد للمثقف المنعزل، لا يعني أن المثقف المتواصل هو من جنس الملائكة، لكن من المهم لكل مثقف الحرص على ترسيخ معنى متوازن من الواقعية، واقعية التواصل، لا تجعله منعزلا ومتقوقعا على ذاته، ولا تجبره على التخلي عن عزته وكرامته وقيمه ومبادئه.

كما أن من واجبه الحرص على تجنب الانطلاق والعمل من رؤى أيدلوجيه متعالية مغرقه في أحلامها وفي نقائها، عندما يحاول أن يجتهد في فهم ظواهر عالمنا المعاصر، وطريقة التعامل معها.