كيف يفكر المجتمع السعودي؟(3-3)

 

أكبر درجات الغبن في المجتمع السعودي تلحق بالمرأة، بل تظل وضعية المرأة أفصح الأمثلة المعبرة عن اضطراب الذهنية التراثية/السلفية، من حيث طغيان العاطفية واستحكام الخرافة وقصور أدوات التفكير الجدلي، هذا إن لم نقل بفنائها.

وإذا كان عالم الإنسان المقهور، كما قلنا، هو عالم فقدان التوازن النفسي والوجودي، هذا العالم الذي يولّد بالضرورة توتراً نفسياً يتجاوز غالباً طاقة الإنسان المقهور على الاحتمال، فلا يمكن أن يكون الإنسان سوياً دون شيء من الكرامة والإرادة الحرة وشيء من الاعتداد بالذات.

وعندما يحدث فقدان التوازن النفسي ينتج حالات مفرطة من التوتر والقلق، مما يضطره هذا الإحساس بفقدان التوازن واحترام الذات، إلى التماهي أو التناغم على الأقل مع قيم التلسط والقهر لكي يُؤمن هذا التناغم نوعًا من الكبرياء المتكلف الذي يجعل الحياة محتملة ومبررة.

فالمرأة المقهورة تكاد تصبح وضعيتها الاجتماعية أبلغ مثال لحالات التماهي مع المتسلط من خلال ما تعانيه من استلابات (استلاب اقتصادي، وجنسي، وعقائدي، واجتماعي)، فمصيرها غالباً مرتهن لصالح قوى السيطرة الخرافية التي توجه وتتحكم بكينونتها من مهدها إلى لحدها.

إن المرأة في معظم نسيجنا الاجتماعي السعودي ملكية لأسرتها، منذ ولادتها وحتى موتها، بداية بالأب، ثم الأخ، وانتهاء بالزوج، فهي مجرد تابع، لا حرية له، ولا إرادة، ولا كيان، إلاّ في استثناءات ضيقة النطاق، وعند بعض الطبقات المتوسطة ونحن هنا لا تعنينا تلك الاستثناءات والحالات الشاذة والمغردة خارج النسق.

والسؤال هنا كيف تحولت المرأة إلى أداة للمجتمع، ومن ثم لم تجد اعترافاً بوجودها ككائن قائم بذاته له غيريته وأصالته؟
في تقديري أن السبب الرئيس لإحاطة المرأة بمجموعة كبيرة من الأساطير التي تسلبها كيانها الإنساني محولة إياها إلى سند هوامي يختزن كل العقد والتأزمات والتصورات والمخاوف والرغبات المكبوتة والإحباطات التي تساهم بشكل أو بآخر في تعزيز تبخيس مكانة المرأة على المستوى الاجتماعي، يرجع كل ذلك للبنى الاعتقادية السائدة في المجتمع (سواء كانت دينية، أو أسطورية، أو العادات والتقاليد والأعراف - وبينهم جميعاً امتزاج وتداخل)، التي بدورها أنتجت قوانين وتشريعات عديدة تكاد تصبح مسلمات لا تُمس.
فالعرف أصبح معياراً للنظرة إلى الأمور، حتى أصبح الحَسَن هو ما حسَّنه "العرف" والقبيح ما قبَّحه "العرف" والعقل في إجازة.

فليس للعقل حكمٌ في حسن الأشياء وقبحها وكون الفعل سبباً للثواب والعقاب، أليس كذلك؟
هذه المسلمات، أو المعتقدات، أوالأعراف قيدت المرأة، مستأصلة منها حريتها وإرادتها، ومسلّعة جسدها، ومعززةً كل المسوغات الاجتماعية التي ترمي إلى السيطرة على كيانها كأداة للإنجاب، والمتعة، وخدمة المتسلط، الأب، الأخ، الزوج..إلخ.

وقد ساهم هذا القهر المشرعن في حالات كثيرة في القضاء على إمكانتها الذهنية والإبداعية والاستقلالية والمادية، حتى بدا ظاهرياً أن القصور الذاتي كالجهل وانخفاض مستوى الذكاء وطغيان العاطفية والخرافة التي تعاني منه المرأة ما هو إلاّ نتاج طبيعتها الذاتية وليس نتيجة لمؤثرات خارجية.

وعن أسباب وضعية المهانة وحالات القهر والاستغلال التي تعانيه المرأة يقول حجازي: إن طبيعة المرأة لا علاقة لها بهذا القهر.

فالفروق البيولوجية والتشريحية بين الرجل والمرأة لا تبرر مطلقاً ما فرض على كيانها من تبخيس، ولا تقدم أي سند طبيعي فعلي لما يلحق بها من غبن.

الواقع البيولوجي يذهب في اتجاه معاكس تماماً، فالمرأة أكثر مناعة من الرجل، وانبناؤها البيولوجي الوراثي أكثر متانة.

كذلك فإن الرصيد العصبي الدماغي الذي تولد فيه لا يقل بأي حال عن رصيد الرجل، والفرق هو في المكانة التي تعطي لكل منهما، وما فيها من فرص تنمي إمكانات الرجل، وتطمس إمكانات المرأة.

حتى ما يقال عن مازوشية بيولوجية نفسية عند المرأة، هو أسطورة في معظمه، نابع من الاشتراط المستمر والمنظم الذي تخضع له منذ الميلاد.

أبرز هذا الاشتراط هو القمع المنظم لعدوانية المرأة في تعبيراتها الحركية العضلية، وقمع تعبيرات الجسد عندها عموماً، مما يجعل الطاقة الحيوية ترتد إلى الداخل على شكل فوران انفعالي مفرط.

جزء كبير مما يسمى مازوشية المرأة، ليس سوى ارتداد عدوانيتها المتفجرة نتيجة للإحباط المزمن، إلى ذاتها.

أما الجزء الآخر من عدوانيتها فيتخذ سبيله إلى ممارسات الكيد والدس والحقد والحسد التي يشاع اجتماعياً اشتهارها بها.

أما بخصوص ما يشاع عن المرأة اجتماعياً من مثل: زيادة العاطفية، وغياب العقل، وسيطرة الانفعالات، واستفحال الخرافة عندها فهو "ثمرة ما فرض عليها من تجهيل، بسبب حرمانها من فرص تنمية طاقاتها الذهنية التي تسمح وحدها بسيطرة العقلانية والمنطق. فإن سجنها في حدود منزلها، مع ما يتضمنه من حرمان لفرص التعامل مع المواقع والتدريب، واستلابها إرادتها وقدرتها على الاختيار، هو الذي أدى إلى تفشي الخرافة في وجودها وممارساتها ونظرتها إلى العالم".

إن مجتمعنا السعودي في جوهره مجتمع عشائري حتى النخاع، وإذا أردنا أن نعرف كيف يفكر المجتمع العشائري فلنعرف أولاً قيمة المرأة لديه.

المرأة في الأوساط العشائرية، القبلية، لا قيمة لها خارج تخوم جسدها الذي يُختزل فيه كيانها كله، والذي يُحول إلى مجرد أداة لإنجاب الأبناء، مجرد رحم، يكتسب قيمته من خلال درجة خصوبته، وخصوصاً في قدرته على إنجاب الصبيان. لكن حينما تستنزف المرأة، تُهمل ويلفظها الرجل "السيد" مستبدلاً إياها بأخرى، والشرع والقانون والعرف معه.

وللمرأة في الأوساط العشائرية أغراضٌ أخرى، فهي تصبح إذا دعت الضرورة وسيلةً للمصاهرة، بمعنى أن تكون جسرا لمد الروابط بين العشائر، القبائل، لغرض تقوية سطوتها ومالها، وأحياناً ضمن العشيرة الواحدة (مثل تزويج الفتاة إلى ابن عمها) طمعاً في تثبيت لحمة العشيرة، وحفاظاً على نقاء دماء"أصولها".

المرأة في هذا السياق مجرد أداة للتلاحم والتحالف، ولا يمكن أن يكون لها وجود حيوي خارج إطار هذا الدور.

وحتى ما يسمى بعقد الزواج الشرعي قد لا يخلو أحياناً من استعباد للمرأة، وتكاد لا تخو طبقة اجتماعية من هذه الاختلالات، وأعني بذلك حينما تباع المرأة وتشترى تحت مسمى هذا العقد الشرعي مقابل مصالح، مادية ومعنوية، يحوزها الأهل من خلال تزويجها.

فبينما تحرم الذهنية الدينية الاختلاط بين الرجل والمرأة ولو كان إلكترونياً، حفاظًا على عفة وطهرانية المجتمع المحافظ، ولكنها في الوقت ذاته تشرعن علاقات غير قائمة على التكافؤ والإرادة الحرة، بل هي مشوبة بالدنس والتبخيس لقيمة الإنسان، المرأة على وجه التحديد (المسيار، الوناسة، المتعة..إلخ) والتي تحول المرأة من خلال هذه الزيجات إلى أدة للمتعة، وكعلاج مؤقت لظواهر اجتماعية هي في حقيقة الأمر محض مشكلات ذكورية.

والمؤدلج دينياً لا يرى في هذه الزيجات أي إهانة للمرأة على الإطلاق، طالما الضحية ليست من عائلته، أو عشيرته طبعاً، بينما يقيم الدنيا ولا يقعدها لو رأى امرأة "مستهترة" بحجابها!

والحقيقة أنهم يبحثون عن مسوغ شرعي "حكم شرعي" يشرعن غاياتهم النفعية ورغباتهم النهمة والشبقة تجاه المرأة من جهة، ولكف الضميرعن صخبه وعويله من جهة أخرى، الذي هو أيضاً خاضع للأدلجة، فكل "خطيئة" مشرعنة يصمت أمامها الضمير الديني صمتاً مطبقاً، ومثال حي على ذلك تزويج القاصرات الذي هو في حقيقته اغتصاب مشرعن للطفولة تحت مسوغات أسطورية.ولاغرو إن المؤدلج دينياً ينصاع للحكم الشرعي، أو المشرعن، متى ما توافق مع رغباته وحاجاته الذاتية بصرف النظر عن مدى تناغم هذا الحكم المشرعن مع كرامة الإنسان وحقوقه.

وحتى العلاقة الجنسية تتحمل تبعاتها المرأة، فالذنب دائما من نصيبها، فهي "مذنبة إن استسلمت للإغراء قبل الزواج، ومذنبة إن هي حرمت المتعة برفقة زوجها، نظراً لما تعرّض له جسدها من قمع، ومذنبة إن هي لم تنجب، ومذنبة إن لم تنجب الذكور. تتحمل المرأة الوزر كله" والذي يؤسف له حقاً أن ترى بعض النساء في كل هذه الاستلابات كعقيدة تمثل جزءاً من طبيعتهن الأنثوية!

ولا يمكن أن ننسى هنا موقف رموز الفكر الديني من المرأة الذي له تأثير لا يستهان به في واقعنا الاجتماعي، وله ما يبرره تاريخياً، أو دينياً إن شئتم، فهم يعتمدون في موقفهم من المرأة على قراءات وتفاسير الأسلاف لآيات القرآن الكريم ولأحاديث النبوة.

من ذلك تفسير الطبري لآية القوامة "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء "يقال إن الرجال لهم الفضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيامة عليهن لذلك.

وقيل للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة فيكون فيه قوة وشدة وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف فجعل لهم حق القيام عليهن.أما ابن كثير فيقول في تفسير الآية: الرجل قيِّم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت، لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خيرٌ من المرأة.

كما أن المرأة في نظر الفكر الديني بأغلب أطيافه المختلفة، كائن عورة ومصيدة الشيطان ومن الواجب تغطيتها. ولكنهم اختلفوا فقط في الكم الذي يجب تغطيته من جسد المرأة؛ فبعضهم قال كل الجسد بما فيه الوجه واليدان، والبعض الآخر قال كل الجسد ما عدا الوجه والكفين، كما هي الحال أثناء تأدية الصلاة.

ويكاد يتفق معظم أطياف الفكر الديني المحلي على حكم وجوب عزل المرأة عن الرجل، سواء كان ذلك الاختلاط في العمل أو الجامعة أو المدرسة..إلخ وهؤلاء في نظرتهم للمرأة لا يختلفون كثيراً عن الموقف التوراتي تجاهها.

فالعهد القديم يقول عن المرأة "فجُلْتُ بقلبي لأعلم وأبحث وألتمس الحكمةَ وحقيقة الأمور، لأعلم أن الشرَّ جهلٌ والجنونَ غباوة. فوجدتُ أن ما هو أمرُّ من الموت هي المرأة لأنها فخٌّ ولأن قلبها شبكةٌ ويديها قيود (سِفْر الجامعة 7: 25 – 26 ).

وقد قام مجموعة من المشايخ المتنورين بمحاولات جادة لتحطيم هذه الصورة النمطية الظالمة. فهؤلاء المتنورون آمنوا بأن تحرير المرأة والنهوض بها هو جزء لا يتجزأ من النهوض بالمجتمع كله ورقيه ووضعه على سلم الحضارة.

ومن أشهر هؤلاء الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي والسيد محمد حسين فضل الله وغيرهم، وهم على أي حال قلة.

وللأول قول جميل في هذا السياق "إن الله خلق هذا العالم، ومكَّن فيه النوع الإنساني ليتمتع من منافعه بما تسمح له قواه في الوصول إليه، ووضع فيه حدوداً تتبعها حقوق، وسوّى في التزام الحدود والتمتع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع، ولم يقسم الكون بينهما قسمة ضيزى، ولم يجعل جانباً من الأرض للنساء يتمتعن بالمنافع فيه وحدهن وجانباً للرجال يعملون فيه في عزلة عن النساء، بل جعل الحياة مشتركاً بين الصنفين، شائعاً تحت سلطة قواهما بلا تمييز. فكيف مع هذا لامرأة أن تتمتع بما شاء الله أن تتمتع به مما هيأها له، بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينها وبين الرجل إذا حظر عليها أن تقع تحت أعين الرجال، إلا من كان من محارمها؟ لا ريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل.ويقول كذلك: والحق أن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده".(محمد عبده، الأعمال الكاملة)

ولقد جوبه هذا الفكر، ولا يزال، من داخل التيارات الإسلامية المتزمتة بالرفض والهجوم باعتباره فكراً دخيلاً على الإسلام.

والذي يؤسف له أن الفكر المتزمت تتسع رقعته يوماً بعد يوم، حتى يكاد يتسيد الساحة، وكل من خالفه يعدّ نشازاً في إيقاع الفكر الإسلامي الأصيل.

وللدُّعاة والوعّاظ المتسيدين للمشهد الإعلامي الديني في عالمنا العربي عامة، والمشهد السعودي بصورة خاصة، أثرٌّ كبيرٌ في تحجيم دور المرأة، ولانخفاض مستوى الوعي وتدني نسبة القراءة لدى الجمهور الإسلامي كافة، رجالاً ونساءً، دورٌ لا يقل خطورة.

هذا فضلا عن فتح الباب على مصراعيه لتسونامي الكتب الدينية المتزمتة بدعم حكومي رسمي في الأغلب، والتي تُطبع بأعداد هائلة وتُباع بمبالغ زهيدة، وأحيانا تُوزع مجاناً، وهي طافحة برفض الآخر، وتحقير المرأة وبطبيعة الحال تحجيم وتقليص دورها الاجتماعي والإنساني.

فمثلا يقف هؤلاء من عمل المرأة موقفاً متشنجاً: لأن عمل المرأة مدعاة للتفريط في شرفها وعفافها وأخلاقها، وكأنما الانحلال طبيعة أصيلة في المرأة دون الرجل.

إن إعطاء المرأة كامل حقوقها وجعلها على قدم المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات هو في الحقيقة ضرورة حياتية لنهضة المجتمعات يفرضها العقل والحس الإنساني السوي.
إذا تحرر الرجل تحررت المرأة بالضرورة، تلك هي المعادلة، والعكس صحيح.

" رحم الله أيام زمان، حينما كانت المرأة في خباء لا تراها الشمس" أليس هذا هو مقياس شرف وعفة المرأة عند كثير منا؟