حول ملتقى خطباء المنبر الحسيني: المنبر بين الواقع والطموح

 

 

بدعوة من قبل منظمي ملتقى خطباء المنبر الحسيني الثاني، والذي عقد بتاريخ 12 أكتوبر 2011، تسنّى لي حضور فعاليات هذا اللقاء، والذي أقيم تحت عنوان المنبر في مسار الإصلاح، حيث حضر اللقاء عدد من العلماء والخطباء ولفيف متنوع من أبناء المجتمع، وإذا كان الملتقى من مسمّاه يستهدف شريحة الخطباء، فإن اللافت هو أن عدد الحاضرين ممن يعدون خطباء هم قلة، وهو أمر يدعو إلى الأسف وخيبة الأمل، حيث كان يفترض أن يكون هؤلاء الخطباء احرص الناس على الحضور والمشاركة بفاعلية، وهو ما نرجو أن يكون في لقاءات المستقبل.

لقد طلب مني الكتابة حول هذا اللقاء، وتقييمي له، لتكون مساهمة مني في إثراء موضوع اللقاء، حتى وان أتى ذلك بعد حين من انفضاض اللقاء، وهذه المقاربة هي من وحي هذه المناسبة حين دونت خلالها ملاحظاتي، والتي تعبر عن وجهة نظري الخاصة، وها أنا ذا اليوم أعيد كتابتها تزامنا مع قرب حلول شهر محرم، وعلى مشارف دخول أيام عاشوراء الحزينة، واقتراب ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.

في البداية يمكن القول أن مثل هكذا ملتقيات أو لقاءات تتيح فرصاً للتلاقي والتعارف والتواصل بين أصحاب هذا الشأن والمهتمين به، ويكفي أن مسمى ملتقى يوحي بالقيمة الإنسانية لهذا المعنى. كما يمكن القول أيضا أن هكذا لقاءات هي مجال رحب ومناسب وبيئة مثالية لتبادل المعارف والخبرات والتجارب، خصوصا إذا ما وعى الحاضرون والمشاركون من أصحاب الشأن هذه القيمة وسعوا إلى تجسيدها بكل جد ومثابرة.

ويمكن لي هنا أن أسجل ملاحظتي الأولى بهذا الخصوص، فهذا المعنى أو هذه المفردات لم تتجسد أثناء اللقاء بشكل جلي وواضح، بحيث تتحول بشكل مقصود إلى جزء من فقرات برنامج الملتقى بشكل مخطط له، وهو الأمر الذي ينبغي لمنظمي هذا اللقاء إدراكه ووضعه في الاعتبار مستقبلا، ليكون حاضرا ومدرجا كجزء من برنامج اللقاء، وذلك بخلق الأجواء والظروف المناسبة لبلورة هذه القيمة بشكل عملي ومقصود وهادف.

على أية حال إن إقامة هذا الملتقى هو بحد ذاته انجاز يستحق التقدير، مهما يكن تواضع النتائج التي تحققت أو أفضى إليها، فالمهم إقامة هذا النشاط والعمل على استمراريته والحفاظ عليه، والسعي إلى تفعيله وتطويره، فالممارسة مع الوقت كفيلة بإنضاج التجربة وتراكمها والإضافة عليها.

كما يمكن الإشارة إلى إن فكرة إقامة الملتقيات أو المؤتمرات تمثل ثقافة جديدة وشكل جديد وأسلوب حديث في مناقشة القضايا ومستجدات الأمور والتباحث حولها، من خلال دعوة واستضافة المختصين والمتخصصين والباحثين والعاملين في أي شأن من الشؤون، حيث نشاهد في عالم اليوم توالي إقامة الملتقيات والمؤتمرات للتباحث مثلا في قضايا البيئة والمناخ والصحة والمرض والفقر والعمل والبطالة وغيرها الكثير من القضايا والموضوعات المختلفة، وهو الأمر الذي يجب ترسيخ فكرته في أوساط مجتمعنا.

لذلك فإن هذه الفكرة الجديدة، لا ينبغي أن تقتصر فقط على موضوع المنبر الحسيني، بل يجب أن تتحول إلى أسلوب حياة ونمط مختلف لإدارة أمورنا، من خلال وضع كل قضايانا وهمومنا تحت مجهر الكشف، ومبضع التشريح، وإخضاعها للنقاش والتحليل، وذلك من أجل سيادة العقلية العلمية، وأن تدار فيه الأمور بطريقة أكثر فعالية، بدلا من أن توكل الأمور فيها على البركة، أو بالطرق الفردية والشخصانية، بعيدا عن التفكير والتخطيط، ووضع البرامج التي تنتجها العقول المشتركة.

يستحق الذين نظموا هذا الملتقى الشكر والثناء على ما قدموه وبدلوه من جهد، وهو الأمر الذي أن دل على شيء فإنه يدل على أن مجتمعنا يزخر بالطاقات والقدرات والإمكانيات الثقافية والإدارية والقيادية القادرة على إعداد وإقامة مثل هكذا ملتقيات أو مؤتمرات، والقدرة على التفكير والإبداع، ووضع الرؤى والتصورات والبرامج، ليس فقط حول موضوع المنبر، وإنما أيضا ينسحب هذا الأمر إلى العديد من الأمور والقضايا التي تهم المجتمع وتشغله.

لعل ما بدل من عمل وجهد لإقامة هذا الملتقى يدل على وجود ثقافة تحمل المسؤولية، والإقدام على العمل واخذ زمام المبادرة، من دون دعوة أحد أو انتظار الآخرين للقيام بمثل هذه الأدوار، حيث يجب أن نعترف أنه ما زالت البنية الثقافية في مجتمعنا تعاني من العجز، نتيجة وجود بعض القيم السلبية التي تدعو إلى الدعة والخمول والكسل والتواكل وعدم تحمل المسؤولية.

من المهم التأكيد على أهمية أن يكون الملتقى عملاً ومشروعا ثقافيا، يسعى إلى التغيير والتطوير والتنمية، وان لا نتعامل معه، أو أن لا يتحول إلى مجرد كونه عملا احتفاليا واحتفائيا ودعائيا، لأنه حين ذلك سيذهب جل اهتمامنا إلى التركيز على الشكليات والمظاهر، بعيدا عن المضمون والمحتوى، فالركون إلى الإطراء وانتظار المديح والمجاملات من الآخرين، غالبا ما يكون مقتل لسمو الفكرة، وعائق أمام عملية التغيير.

إن كثير من المؤتمرات والملتقيات التي تعقد في هذا العالم، دائما ما يتم الإعداد والتحضير لها منذ أوقات مبكرة، قد تمتد إلى اشهر أو أكثر، حيث يقوم المشاركون بإعداد أوراقهم وبحوثهم ودراساتهم وكلماتهم، حتى وان كانت قصيرة، ليتم تسليمها إلى إدارة الملتقى، وهو الأمر الذي سينعكس بشكل ايجابي على سير البرنامج واللقاء، أما إذا ما تكاسل المنظمون أو المدعون وقصروا عن أداء مهامهم وأدوارهم، أو تغيبوا عن الحضور والمشاركة، وخصوصا في اللحظات الأخيرة، أو تعاطوا مع الأمر بطريقة فاترة أو بشكل غير جدي، فإن ذلك بالتأكيد ستكون له انعكاسات سلبية وغير حسنة، تضيع معها أوقات وجهود كثيرة بدلت لإقامة هذا العمل.

وكما يعرف الجميع أن الفرق الرياضية المختلفة، دائما وقبل دخولها المواسم أو الدورات الرياضية، تقوم بعمل خطط وبرامج ومعسكرات إعدادية، وتمارين مكثفة، وتلعب مباريات ودية وتجريبية، من أجل تهيئة اللاعبين للدخول في هذه المواسم الرياضية، مع كون هؤلاء اللاعبين أصلا من المحترفين والأكفاء والمرموقين في عالم الرياضة.

والسؤال الجدير بالطرح هنا هو: ألا يستحق الدخول في المواسم الدينية والثقافية، أو تلك المحطات الروحية والإيمانية، مثل هذا الإعداد والتهيئة، كما يُعمل مع الفرق الرياضية، وذلك من أجل تحقيق أفضل النتائج، والحصول على المردود المجزي بعد نهاية الموسم؟

إذا كان مطلوبا من اللاعب الرياضي، الماهر والمحترف وذو الخبرة الطويلة، التهيؤ والاستعداد البدني قبل دخول الموسم، فإنه أيضا مطلوب من الخطيب الماهر والمحترف، أن يقوم بتهيئة نفسه، والاستعداد والتحضير الجاد قبل دخول الموسم، ليستطيع تقديم أفضل ما عنده في مجال التنمية الدينية والثقافية، فتنمية عقل الإنسان وفكره وثقافته ومعارفه تستحق أن تبدل من أجلها الجهود، كما الجهود التي تبدل من اجل إعداد جسد الإنسان الرياضي.

يجب أن يظل الاهتمام بتطوير وتجديد مستوى المنبر الحسيني همٌّ دائم، وعملية دائمة ومستمرة لا تتوقف، من أجل الارتقاء به وبأدائه، وتطوير جودة خطابه ومضمونه، ليكون قادرا على ممارسة دوره وأداء ورسالته، ومواكبة المواضيع المستجدة والابتكارات الحديثة والتحديات الملحة في مجال الخطابة.

ومن هنا كان يفترض أن تكون ليلة عقد الملتقى مجرد جلسة افتتاحية، يتحول بعدها الملتقى إلى جلسات جانبية وورش عمل تناقش فيها الموضوعات والمحاور والعناوين المقررة سلفا، ويتم في نهايتها تحديد الخلاصات التي توصلت إليها الورش، ثم تقرأ في الجلسة الختامية ويستخرج منها التوصيات النهائية للملتقى.   

والسؤال كيف تقاس نتائج هذا الملتقى؟

وكيف يمكن تجسيد خلاصاته على ارض الواقع؟ وكيف نتابع تحققها عمليا؟

لا نشك في أن خلف إقامة هذا الملتقى دوافع خيرة وهمٌّ مؤرق، يدفع أصحابة إلى اجتراح وإبداع الطرق والوسائل المفيدة لتطوير مسار المنبر نحو الإصلاح والتغيير، وذلك خدمة للمجتمع والارتقاء به نحو الأفضل، إلا أن السؤال الجدير بنا طرحه هنا هو:

ما هي مشكلة المنبر وخطابه، والتي تدفع إلى إقامة مثل هكذا ملتقى؟

وما هي الأسباب، وأين تكمن المشكلة؟

وإذا كان خطباء المنبر يقومون بأدوارهم على أكمل وجه، فهل من داعٍ لإقامة هذا الملتقى؟

وإذا هم لا يقومون بوظيفتهم، فلماذا؟ هل هو تقصير منهم، أم هو قصور فيهم؟

إذا أردنا تغيير واقعنا إلى ما هو أفضل، فإن ذلك لن يتحقق إلا من خلال ممارسة نقدٍ ذاتي صريح، بعيدٍ عن المجاملات والمديح والإطراءات، من أجل اكتشاف مواقع القوة في مجتمعنا، وسد مواطن الضعف فيه، وإذا لم نبادر إلى الكشف عن إشكاليات الواقع التي تعتري حالتنا الثقافية والاجتماعية والدينية، فإننا لن نتمكن من إزالة الأسباب التي تعيق عملية النهوض والتقدم الحضارية. 

وإذا كان الهدف من الملتقى هو تقييم وضع المنبر، وتقويم دوره وإصلاحه، ورفع كفائتة وتطويره، نتيجة ضعف أو قصور في مستوى الخطاب، أو في مستوى الأداء، ولشعورنا بعدم قدرته على تحقيق ما نرجوه ونطمح إليه، فإن ذلك يستدعي عدم قصر الحديث عما يجب أو ينبغي أن يكون، لأن ذلك سوف يكون هروبا إلى الأمام، بل يجب علينا أن نبدأ مما هو كائن فعلا الآن، أي من خلال تقييم الأمر الواقع، وما يكتنفه من عيوب وقصور وسلبيات أو ايجابيات، ليتم بعد ذلك تحديد ما نريد، أو ما ينبغي أن يكون.

إن الحديث عن أهمية المنبر الحسيني ودوره شيء مؤكد ومفروغ منه، ولا يرقى إليه الشك، إلا أن السؤال هو كيف نكون نحن جميعا في مستوى أهمية هذا الدور؟

وكيف نمارس هذه المسؤولية؟

لقد استمعنا أثناء اللقاء إلى كلمات جميلة وهادفة تؤكد على أهمية ودور المنبر الحسيني والحفاظ عليه، حيث يمكن إدراج هذه الكلمات ضمن خانه التوجيه والإرشاد، إلا أننا لم نستمع إلى كلمات أو بحوث ودراسات أعدت بشكل مسبق (مشغول ومتعوب عليها)، تتحدث بلغة نقدية، وتشير إلى واقع الخطاب الديني في مجتمعاتنا، وضعف أداء الخطيب أو قوته، فلو كانت هناك كلمات تحدثت بلغة النقد الذاتي، لكان يمكن أن يكون وقعها أكثر أثرا وتأثيرا بين الحضور، ولأثارت نقاشا عميقا حول موضوع الملتقى، ومستوى الخطيب والخطاب الديني في عالم يتقدم ويتطور بشكل مطرد ومتسارع.

إذا كان هناك من رسالة واضحة يمكن أن يبعث بها هذا الملتقى، فهي أننا جميعا مسئولون عن أداء المنبر والارتقاء به وتطويره، لأن مسؤولية تطوير أداء ودور المنبر الحسيني ليست مسؤولية تخص الخطباء وتقتصر عليهم فقط، بل هي مسؤولية عامة، يشترك في تحملها الجميع، وذلك كل حسب موقعه والدور الذي يؤديه، فإذا كان دور الخطباء وأدائهم تحت المجهر، وواضح المعالم، فلا ينبغي إغفال ادوار الآخرين ومراقبة أدائهم أيضا.

لذلك فإن أي عملية إصلاح تحتاج إلى مشاركة الجميع وتفاعلهم ومواكبتهم لها، وان تتاح للجمهور فرص حقيقية للمشاركة  الجادة في الحوارات والنقاشات ليتاح لهم المجال للتعبير عن آرائهم وملاحظاتهم، والمساهمة في صياغة الرؤى، وتحديد الأهداف، وطرق الوصول إليها، على أن الدخول إلى قلب هذه النقاشات يبدأ بالسؤال عن أي إصلاح نريده جميعا للمنبر، وليس فقط ما يريده الخطباء؟

من المهم كما اعتقد ضرورة تشخيص الواقع كما هو بدون زيادة أو نقصان، وفي حال حددنا ظواهر المشكلة التي نشتكي منها وأعراضها، عندها علينا البحث فيما خلف الظواهر، والبحث عن الجذور المسببة للمرض، لاكتشاف منبت الخلل، قبل وضع الحلول والعلاج المناسب لتجاوزها، فالتشخيص الصحيح هو نصف العلاج كما يقال.

إن الدعوة إلى تطوير الخطاب المنبري، انطلاقا من عرض وتقييم واقع الخطاب اليوم، وفي ظل التحديات التي تفرضها وسائل التقنية الحديثة، لا يأتي من فراغ، ففي ظل ثورة الاتصال والانفتاح الإعلامي الجديد والحديث، أخذت الأجيال الشابة في التعبير عن ذاتها عن طريق وسائل التقنية الجديدة، التي أتاحتها لها ثورة الاتصالات والانفتاح الإعلامي الهائلة في العقد الأخير من الزمن، حيث وجدت هذه الأجيال الناشئة فيها مكانا مناسبا لطرح أفكارها وآرائها المختلفة بكل جرأة، وتوجيه نقد قاس إلى كل من وما يحيط بها من طقوس وأفكار ورموز.

ومن الأهمية بمكان إدراك ضرورة الاهتمام بالأجيال الشابة والناشئة، وفهم تطلعاتهم ومطالبهم، فهُم عماد المستقبل وركيزة التغيير في ظل ما نشهده من تحولات تكنولوجية وثقافية وسياسية، حيث للشباب فيها دور بارز، فلم تعد هذه الفئة اليوم هامشية في مجتمعاتنا، بل أصبح لها صوت مرتفع ومسموع، وأخذت تتبلور نخب شبابية واعية ومثقفة، تفهم ما يدور من حولها، وما يقال لها، وتحاكم ما تسمعه وتنتقده، ولا تنطلي عليها الأقاويل، لذلك أصبح من الضروري والمطلوب التخاطب معها بلغة يفهمونها، وبطريق لا تتسم بالفوقية والتعالي والأبوية.  

إن ما نشهده من تحولات صاخبة، في جميع مجالات الحياة من حولنا، يتطلب التفاعل الخلاق معها، ومواكبة مستجدات العصر وتطوراته، فخوض غمار العولمة في الزمن الحاضر، يتطلب وجود خطيب يكون مؤهلا على فهم لغة العصر ومجاراته، وقادرا على المنافسة في سوق مليئة بالسلع المختلفة الجودة والأشكال والألوان، وهو الأمر الذي يتطلب أولا التأسيس لقاعدة ثقافية صلبة، تحترم التنوع في الآراء والتوجهات والمذاهب والأفكار، ثقافة لا تفرض الرأي الواحد، وتمقت الإقصاء والتهميش. 

أما بخصوص الموضوعات الواجب طرحها وتناولها من على المنبر، وكيف يمكن تحديدها، ومن يحددها، هل هو الخطيب أم المستمع والمتلقي، فيمكن الإشارة إلى اتجاهين اثنين الأول: أن يساير الخطيب رغبات المستمعين، بحيث يلبي الخطيب ما يطلبه المستمعون ويصبح رهن طوع واهتمامات المتلقين ورغباتهم، وهنا يكون الخطيب مجرد صدى لرغبات الجمهور. الاتجاه الثاني: أن يحدد الخطيب الموضوعات التي يرى أنها مناسبة وضرورية بناء على قناعاته وتشخيصه، ومن ثم يفرضها على المتلقين.

والسؤال أي الاتجاهين هو الأصح والأنسب؟

ليس دائما رأي الجمهور يكون على صواب، لكن هذا لا يعني تغافل رأيه وتجاوزه وعدم الاستماع إلى رغباته وهمومه ومشاكله وتطلعاته، إلا أن السؤال هل كل الخطباء يمتلكون القدرة والمؤهلات على تشخيص الواقع وتحديد واختيار الموضوعات المناسبة بناء على هذا التشخيص؟ وهل الخطباء لديهم الخلفية العلمية والثقافية والمعرفية التي تمكنهم من التحدث باقتدار في الموضوعات المستجدة والملحة، أم أنهم دائما ما يكررون ما يطرحونه من موضوعات تعودوا على التحدث فيها سابقا؟

هناك من يشير إلى أن السؤال الصحيح طرحه ليس عن مدى قدرة الجمهور في تحديد عناوين المحاضرات التي يفضل الاستماع إليها ويرغب في إثارتها والتطرق إليها، وإنما السؤال هو عن من هو الخطيب المتمكن القادر على التحدث في تلك المواضيع الملحة بتمكن واقتدار ومسؤولية، حيث فاقد الشيء لا يعطيه، كما يقال؟

اعتقد انه من المهم أن تتكامل عملية تحديد موضوعات المنبر من خلال تكامل وتعاون ثلاث أطراف، هم الجمهور والخطيب بالإضافة إلى النخبة العالِمة والمثقفة من أبناء المجتمع، وهو الأمر الذي لن يتحقق إلا من خلال بناء الأطر المناسبة، لتكون بمثابة معمل ومركز للمعلومات، يتيح للعقول المفكرة التي تنتج الأفكار والرؤى أن تجتمع وتلتقي، وتمارس عصفا فكريا، وتخوض حوارات جادة، تشخص من خلالها حاجات المجتمع الضرورية والملحة، والتي يجب معالجتها، أو تلك الأفكار التي يجب التبشير بها.

عندما تحدثنا عن أن الملتقى يشكل فرصة للتعارف والتواصل، وتبادل المعلومات والخبرات والتجارب، والتحدث في أفضل طرق الخطابة الحديثة، وأساليب توصيل الأفكار، وطرق التفاعل بين الخطيب والمستمع، فإن ذلك من اجل أن تتحول حصيلة ونتاج هذا اللقاء وخلاصته إلى قاعدة معلوماتية تتيح للخطباء الحاليين أو خطباء المستقبل الاستفادة منها في ممارسة دورهم ووظيفتهم في مجال الخطابة، خصوصا مع التغيرات السريعة والمتسارعة التي فرضتها التكنولوجيا الحديثة، والتطور في شبكة المعلومات.

إن اثر وانعكاس وتأثير ما يلقى من موضوعات من على منبر الخطابة لا يكمن فقط أثناء إلقائها، وإنما قوة تأثيرها الحقيقي يمتد إلى ما بعد الإلقاء وانتهاء المحاضرة، وذلك من خلال ما تتركه من اثر على المستمع عندما يخلو إلى نفسه، ويبدأ التفكير فيما استمع إليه، ويناقش ما استمع إليه من أفكار ومعلومات، ويقوم بإجراء عملية حوارية مع نفسه، ومع غيره من المحيطين به حول ما استمع إليه، والتعمق في محتواها، ومن ثم التفاعل مع الخطيب ومحاورته من خلال الاتصال والتواصل معه بشكل مباشر، أو بالطرق الحديثة المتاحة في هذا الزمن لإبداء الملاحظات والاستفهامات، والانتقادات والاقتراحات.

من المهم للخطيب أن يحرص على تفاعل مستمعيه معه، ومع موضوعاته، وأن يشجع مستمعيه ويحثهم، بل ويحرضهم، على التزود بالمعارف المكملة لموضوع المحاضرة من خلال القراءة والمطالعة، وليس فقط الاكتفاء بما قاله من على المنبر، لأن ما يقوله الخطيب هو مجرد عناوين عامة، حيث يمكن له الإشارة إلى المراجع والكتب والكُتاب والموضوعات التي يمكن الرجوع إليها. 

إن العملية التفاعلية بين الخطيب والمتلقي تجعل الخطيب حريصا في اختيار موضوعات الخطابة، ومجدا في التحضير لها، ودقيقا في استعمال كلماته ومصطلحاته، لأنه  بذلك يشعر ويدرك انه ليس متروكا لوحده، بل هناك من يراقب ويدقق ويحاسب وينتقد. فإذا لم يمارس الخطيب دوره بمسؤولية، ولم يكن في المستوى المطلوب، أو كما ينبغي أن يكون، أو كما هو متوقع ومناط به، أو لم يكن عند حسن الظن، فكيف يمكن محاسبته على أدائه وتقصيره؟ ومن هو المناط بمحاسبته وتقييمه؟

يبقى القول أنه إذا كان مهما إقامة مثل هكذا ملتقى قبل موسم عاشوراء، فإن الأهم من ذلك كما اعتقد عقد ملتقى مماثل بعد الانتهاء من الموسم، من أجل عمل جرد حساب وتقييم للموسم من كل جوانبه، لتكون هذه المراجعة فرصة لكشف مواقع القوة وتعزيزها، ومعرفة مواطن القصور والعجز وتقويمها.

إذا كان لي من خلاصة أخيرة أقولها، فهي انه قد آن الأوان لأن يكون موضوع تقييم الواقع ودراسته مدار بحث ونقاش جاد ضمن لجان مهتمة أو مؤتمرات هادفة، من أجل تبادل الرأي والخبرات والتجارب، أو ضمن حوارات بناءة، من خلال المنابر الثقافية والإعلامية، فالمسؤولية تفرض على أبناء المجتمع التصدي للمعوقات والعقبات التي تضعف قدرتهم على التحدي والمواجهة. وإذا كانت التحديات الكبيرة المعاصرة تفرض المواجهة، فإن علينا الاستجابة لهذه التحديات بكل قوة وعزيمة وإرادة لا تنكسر.

والسؤال هو كيف تكون هذه الاستجابة، وما هو السبيل لمواجهة تحديات الواقع، واستحقاقات المرحلة الزمنية الحاضرة، هل يكون هذا الاستعداد، وهذه المواجهة مبنية على أسس قديمة، وعدة شغل تجاوزها الزمن، أم التفكير في إبداع أدوات بديلة ومتطورة، وعدة شغل جديدة، تكون مناسبة للظروف الجديدة والحادثة، وتستجيب للتحديات المعاصرة؟