السيد منير الخباز أنموذجاً

خطاب عاشوراء الثقافي بين التجديد أو الترديد

 

 

انقضت ليالي عاشوراء الحزينة بعد أن هطلت علينا بنِعَمها في موسم اجتماعي, روحاني, ثقافي و تربويّ يتكرر علينا كل عام تحت راية الإمام الحسين عليه السلام. جميع تلك الأركان لهذا الموسم كانت منذ زمن الأجداد ولا زالت تمتلك أهمية كبرى في إحيائها وتفعيلها خلال هذه الليالي لدى جميع طبقات المجتمع الشيعي, بدءاً من خطباء المنبر الحسيني وحتى أصغر طفل في المجتمع, مُنطلقين من الآية الكريمة: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوىَ القُلُوبِ).

وفي ظل تغيرات الزمن والدخول في تأثيرات عصر العولمة والقرية الإلكترونية, برزت بعض الإشكاليات في مدى نقص أو ضعف الخطاب العاشورائي الثقافي للمنبر الحسيني. بطبيعة الحال جيل اليوم ليسوا كجيل الأمس, ولكننا لازلنا نعاصر بعض الخطباء في مرحلة الترديد لمحاضراتهم التقليدية, ذات المحتوى الثقافي البسيط والأسلوب الإنشائي الذي حفظه الجميع. في المقابل أجيال اليوم أصبحوا يمتلكون من وسائل المعرفة ما لم يكن متوفراً في السابق, فبضغطة زر واحدة بالإمكان الحصول على أي كتاب كان أو محاضرة معينة في أي زمان أو مكان, ومن هنا بدأت الإشكالية في تفاوت المستوى الثقافي للخطاب العاشورائي.

من نِعَم وسِمات هذا الموسم والتي نتميّز بها عن الكثير من المجتمعات, أن يتوحد كافة أبناء المجتمع بمختلف طبقاتهم وتوجهاتهم تحت منبر الخطيب الحسيني, ويلتزموا بذلك لمدة عشر ليال متواصلة للاستماع إلى محاضرات هذا الخطيب. أي أنه يمتلك ما يُقارب العشر ساعات في الموسم لإلقاء محاضراته عليهم, وفي المقابل ندوة ثقافية أو أمسية لمدة ساعة واحدة ومع الدعوات والمحفزات إلا أنها قد لا تتعدى عشرات الحضور يخرج نصفهم قبل انتهاء موعدها. لذلك كان لابد من التركيز على استثمار هذه الليالي ثقافياً – مع عدم إغفال الجانب الروحي لها - , خصوصاً في ظل الأزمات والقضايا الكثيرة التي تحيط بمجتمعنا في هذا اليوم, فلا يختلف اثنان حول حاجتنا الكبيرة إلى زيادة الوعي الثقافي لجميع طبقات المجتمع فمن أهم أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام, قوله: " وَإنيِّ لَم أخرُج أشِراً ولاَ بطراً, ولاَ مُفسداً ولاَ ظالِماً, وإِنمَا خرَجتُ لطَلبِ الإِصلاح فيّ أُمَة جديِّ مُحمَد صلَى اللهُ عليه وآلهِ وسلَم ". وأيُّ إصلاح نحن في أشد الحاجة له في هذه الأوقات الصعبة على مجتمعنا, إصلاح اجتماعي وثقافي يرتقي بأبنائه ويحصنهم اتجاه الفتن المتتالية عليهم. ولكن للأسف لازلنا نُفرط بهذه الخاصية العظيمة, من خلال ترديد تلك المحاضرات نفسها من عشرات السنين, وإن اختلفت في المظهر إلا أنها تتشابه في المحتوى, فأصبح الجميع حافظاً لما سيقوله الخطيب في محاضرته حتى قبل أن يبدأها, لا تُضيف للمستمع أي شيء جديد على المستوى الثقافي والمعرفي.

بنفس الوقت هناك مجموعة من خطباء المنبر الحسيني يعملون بجد واجتهاد على تجديد محاضراتهم شكلاً ومضموناً في كل موسم, ويظهر ذلك جلياً من خلال الأعداد الكبيرة والهائلة للحضور لهم. العلامة السيد منير الخباز أحدهم, إن لم يكن رائداً للتجديد في الخطاب العاشورائي الثقافي في المنطقة حيث منذ مواسم سابقة وحتى موسمنا هذا, كان له دور هام في تفعيل الدور الثقافي للمنبر الحسيني, ويتضح ذلك من خلال المجهود الكبير في الإعداد لمحاضراته لليالي عاشوراء, والذي يظهر على مدى متانة ورصانة هذه المحاضرات في الطرح الثقافي والفكري لقضايا متعددة ومتنوعة معاصرة للحدث ومواكبة للتغيرات المحيطة بنا, تحمل مخزون فكري ومعرفي عميق, مما ينعكس إيجاباً في إثراء المستمعين, وإنتاج حراك ثقافي بين جميع طبقات المجتمع.

في موسمنا هذا, أتحفنا السيد منير الخباز بمجموعة من المحاضرات المتنوعة والمختلفة, سواءً كانت فقهية دينية, ثقافية, فلسفية, حقوقية, وحتى إدارية. جميعها تمس هموم المجتمع اليوم وليس الأمس, فمن اختلاف الأديان والمذاهب, النص وتعدد القراءات, الدولة الإسلامية أم الدولة الليبرالية, ماهية عدالة السماء, العقلانية في الفقه الإسلامي, فلسفة العبادة, ثقافة التغيير الإيجابي, حتى المواطنة وحقوق الوطن والمواطن. بأسلوب مُميز يقوم باستعراض جميع الآراء والأفكار المختلفة حول الموضوع, مما يُبهرك أنه اطلّع وأعد جيداً بطرح آراء علماء, فلاسفة ومفكرين, حتى يختم الحديث برأيه من المنظور الإسلامي والشرعي, مما جعله موسماً عاشورائياً ثقافياً بامتياز.

ولذلك كانت أعداد الحضور لمجالسه تتجاوز الآلاف, فحسب إحصاء حسينية الناصر بسيهات أن عدد الحضور تجاوز العشرة آلاف مستمع لليلة الواحدة, وكُنا في بلاد الغربة نجتمع في تلك الليالي وننتظر الوقت الذي تتحمل فيه المحاضرات على شبكة الإنترنت لكي نستمع لها, وما تمر ساعات على تحميل الحلقة على الإنترنت حتى يتجاوز عدد مشاهديها الألف مشاهدة في كل ليلة. ولذلك لاحظت الكثير من الأصدقاء على شبكات التواصل الاجتماعي ينشر محاضرات السيد منير الخباز في كل ليلة, مُعلقاً عليها بكل فخر: لمن أراد أن يعلم, ماذا نتعلم من منبر عاشوراء؟!

الحديث هنا عن الدور الثقافي للمنبر الحسيني, ذكرني بندوة ثقافية حظرتها تحت عنوان (قراءات ثقافية في خطاب عاشوراء) أقامها مركز آفاق الثقافي بسيهات في ربيع الأول من العام الماضي, استضاف فيها كلاً من سماحة الشيخ فيصل العوامي, وسماحة الشيخ حبيب الخباز. وأكّد الشيخان وقتها على تعمّد وجود نوع من البساطة في الأسلوب والطرح في الخطاب للمنبر الحسيني؛ بذريعة أن الخطاب ليس نخبوياً وإنما هو خطاب عام موجه لمختلف طبقات المجتمع.

السؤال هنا, ألا يُمكن لخطباء المنبر الحسيني رفع مستوى الخطاب الثقافي إلى مستويات أعلى تدريجياً للحضور فيزدادوا في البحث والقراءة والإطلاع حتى يصل "الخطاب والحضور" إلى المستوى النخبوي, وبذلك تكون ارتفعت بهم إلى تلك المستويات, بدلاً من أن تهبط إلى المستوى العام وتظل تُكرر وتُردد المحاضرات على نفس المستوى والسياق سنوياً؟!. وهذا هو منهج التجديد الذي أعتقد بأن السيد منير الخباز ينتهجه في طرحه الثقافي لمحاضراته.

في النهاية, كانت أمسية رائعة ومميزة استمع وناقش فيها الخطيب الحسيني لآراء المثقف والعكس, مما أثرى وأضاف إلى الطرفين الكثير.

لذلك لما لا تكون هناك لجنة أو هيئة تضم جميع خطباء المنبر الحسيني بالإضافة إلى مثقفي المنطقة, تجتمع سنوياً مرتين على الأقل قبل وبعد موسم عاشوراء, لتقييم المحاضرات, إعداد دراسات وقراءات حول الدور الثقافي للمنبر الحسيني, إقامة ندوات تبحث هذه المواضيع بكل جدية, مناقشة العناوين المطروحة ومدى الأهم من المهم لطرحه على المجتمع والاستفادة من آراء وخبرات بعضهم بعضاً. فالعمل المؤسساتي أثبت نجاحه في جميع مجالات وأنشطة موسم عاشوراء, فلم لا يكون هناك أيضاً عمل مؤسساتي لخطباء المنبر الحسيني أنفسهم؟! حتى نصل إلى موسم عاشورائي ثقافي ناجح, كما هو الحال على المستوى الروحاني والاجتماعي وغيرها.