تداعيات الهويّة المشوشة

 

 

 

الهوية تعني الموازنة بين الذات والآخرين ، وتذكُر بعض المعاجم اصطلاح الهوية على أنها ترادف " الشخصية "  ولكنني أعتقد أن الهوية تتجاوز نطاق معنى الشخصية إلى حد بعيد حيث أن الشخصية تخص الإنسان فقط ، بينما يدخل تحت مفهوم الهوية الإنسان وسواه حتى الأشياء ، ومن هنا فهما مفهومان لا يتطابقان وإن ترادفا مع بعضهما البعض .

وتُعتبر " معرفة الأنا " أو " معرفة الهوية الذاتية " النواة الأساسية في مسألة نمو الشخصية عند الكثير من العلماء والمفكرين ، وبالرغم من إنني صادفت الكثير من الناس ولا سيما من فئة الشباب الذين ما زالت رؤيتهم لم تتبلور بعد حول مفهوم ودلالات شخصيتهم ، وهويتهم الفردية ، أو الجامعة ، إلاّ أن ذلك لا يعني بالضرورة الغياب التام للوعي بالذات بأي شكل من الأشكال ، لأنه بالحديث معهم تكتشف أنهم ما زالوا في مرحلة البحث والتأصيل ، وهذا بحد ذاته يُعتبر سلوكاً حسناً وواعياً في إدارة الذات وتأطيرها ، وبالتالي لا يمكن أن تتحدث والوضع كذلك عن وجود " أزمة " في موضوع الإحساس بالشخصية أو الهوية على حدٍ سواء.

من جهة أُخرى فإن معالم الهوية التي يهتم بها الشباب أو الناشئة هي : من هو ؟ وما هو الدور الذي يتوجب عليه إيفاءه إلى المجتمع ؟ وهل هو لا يزال النظر إليه كطفل أم أنه بات راشداً ويمكن الإعتماد عليه وظيفياً في دائرة الواجبات والأدوار الإجتماعية ؟ وهل بمقدوره القيام بأعباء الحياة يوماً ما باعتباره زوجاً أو أباً أو أماً ؟ وهل يتمتع بالثقة في النفس في ظل تعارض الإتجاهات وتصادم القناعات ؟ ثم هل يمكن الإعتراف به وبمقوماته الشخصية والتعاطي معه على ذلك الأساس بموضوعية مُطلقة بغض النظر عن منظومة معتقداته الفكرية والإجتماعية ؟

بيد أنّ أخطر ما قد يُصاب به المرء في هذا الإطار هو ما يمكن تسميته بـ " تشويش الهويّة " فقد يُعاني الفرد بضربٍ من ضروب ذلك التشويش والإضطراب في مرحلة بلورة الهوية أكثر من أي فترة أُخرى من فترات حياته السابقة ، حيث يشعر الفرد خلالها بالخواء ، والإنزواء ، والإضطراب ، والإرتياب ، كما يشعر بأن المجتمع يدفعه لإتخاذ قرارات ما، وهو يرفض التجاوب مع ذلك الإيحاء الصادر عن المجتمع .

وهنا تتعدد المظاهر والمؤشرات الدالة على وجود إضطراب أو تشويش في الهوية ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : التهرب من المسئوليات ، والشعور بالملل واللامبالاة ، وقفز المصلحة الشخصية على المصلحة العامة للتمحور الشديد حول الذات وضعف الشعور بالنحن ، والتركيز على كل ما هو مادي أكثر من الإهتمام بما يصب في جانب المعنويات والحس الجمعي .

إنّ عدم عثور الفرد في أي مجتمع كان على إجابات شافية ووافية لإستفساراته الأساسية من شأنه أن يسلبه الدوافع التي تحثه للقيام بواجباته تجاه الآخرين ، كما يؤدي استشراء هذا المناخ النفسي في أجواء المجتمع إلى تفاقم الظروف أكثر مما هي عليه في ذات اللحظة ،  ويتسبب ذلك في جنوح القيم الفردية نحو الإنزواء عن الجماعة ، بينما تؤكد قيم المجتمع على الشعور بالمسئولية إزاء الجماعة ونبذ الأنانية الفردية ، وهنا يلجأ الفرد لإبراز طاقاته الكامنة ليس للمساهمة في توفير الإشباع لقيم الجماعة ، إنما لتحقيق ذاته أو جماعته الضيقة جداً في ظل هشاشة الهوية الجامعة !! تحياتي . 

إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية